سيرة مختصرة للعالم الهولندي دايجسترا

بسم الله الرحمن الرحيم
لو سألت شخصا ما عن العلماء لذكر لك مجموعة ممن يعرفهم مثل نيوتن و ابن الهيثم و جاليليو و هكذا ، و لكن ما يربط كل هذه الاسماء هو انهم علماء من قديم الدهر ! فلو سألت في اي تخصص اخر لنقل مثلا الادب لكانت الاجابة شكسبير و برونتي و دانتي و هكذا مرة اخرى سيكون الرابط هو انهم اعلام قرون ماضية .
لا ادري لماذا و لكن دائما العلماء و المفكرون و الفنانون و غيرهم ممن تركوا بصمة تاريخية في حضارة الانسانية لا يعرف قدرهم الا بعد مئات السنين و كأنهم يسبقون زمانهم بمئات السنين لا عشرات السنين ! في القرن العشرين مرت علينا اسماء كثيرة اثرت و اغنت الحضارة البشرية و لكن الى الان لم تلق حظها من الشهرة ربما اينشتاين يشذ عن القاعدة و القليل القليل من امثاله.
من هذه الاسماء المغمورة هو العالم الهولندي ادسجار دايجسترا (1930 – 2002)و الذي سيكون له شأن كبير مستقبلا عندما يبدا الباحثون بدراسة انجازاته . و قبل ان نتكلم عن قليل من نظرياته و انجازاته في الميدان العلمي يهمني دائما ان نسلط الضوء و لو قليلا على الشيء اليسير من حياته اي الجانب التاريخي للموضوع و الذي اوليه اهتماما كبيرا في قراءاتي و دراساتي بخلاف من يقلل من شأن هذا الجانب متجاهلا القيم و الحكم التي يمكن ان نستخلصها من دراسة هذه الجوانب بالاضافة الى ما تعطيه من فهم و تحليل لبيئة الموضوع محل الدراسة من خلالها يمكن معرفة الاسباب و الدوافع و الاهداف و العوامل الخارجية التي ساعدت على تبلور الموضوع بالشكل الذي نعرفه .
و ليكن الكلام في هذا الجانب على لسانه شخصيا اقتباسا اجماليا من المقالة المرقمة 1166 و المعنونة بـ " من حياتي " ..:
" كنت الطفل الثالث من اصل اربعة اطفال . والدي كان عالم كيمياء مبدع يعمل في روتردام . اشتغل كمدرس في احدى الثانويات ثم كان ناظرا لها . و قد كان له العديد من الاختراعات و التي تميز بعضها بالتعقيد فقد كان ذائع الصيت و شغل منصب رئيس الجمعية الهولندية للكيمياء . اما امي فقد كانت عالمة رياضيات عبقرية و لكنها لم تشغل اي وظيفة بسبب تقاليد تلك الايام على الرغم من انها حائزة على شهادة جامعية في الرياضيات . و بالرغم من انها لم تكن ذات عقل موسوعي مثل ابي الا انها كانت تتمتع بعقل حاد الذكاء . كانت مبدعة في معالجة المعادلات و ذات موهبة في الوصول الى الحلول الانيقة . لقد تعلمت منها كثيرا على الرغم من كونها تفتقد الصبر لكي تكون مدرسة جيدة !
في العام 1974 ، عزمت على الدخول الى الجامعة لدراسة القانون و كنت اطمع في ان اكون ممثلا لبلادي في الامم المتحدة. عندما قدمت الاختبار التأهيلي اصبت باحباط لانني بدات بمراجعة اجاباتي و عرفت اخطائي و غبائي ! فاعتقدت اني سأرسب في هذا الاختبار ..
و لكن لحسن الحظ كانت النتيجة افضل مما توقعت و اخبرني الاساتذة بانهم قلما رأوا نتيجة مثل نتيجتي و ابدوا اسفهم على ضياع هذه الموهبة التي يجب ان تسخر لخدمة العلم . عليه غيرت مساري لادرس الرياضيات و الفيزياء في جامعة ليدن خلال السنوات الاولى و في النهاية درست الفيزياء النظرية .
بشكل عام اعجبتني الحياة الجامعية كثيرا . كنا فقراء ، نعمل بجد ، لم نكن ننام الا قليلا ، و لا نأكل ما يشبعنا و لكن كانت الحياة شيقة جدا . "
· اذا باختصار التحق بجامعة ليدن ليدرس الفيزياء النظرية و لكنه ادرك لاحقا انه مهتم بعلوم الحاسب. توظف في "ماثيمتش سنترم" بامستردام مع حمله للقلب البرفسور في جامعة "اندهوفن" للتقنية. و عمل كباحث في شركة "بوروغز" في بداية السبعينات ثم ترأس كرسي علوم الحاسب في جامعة تكساس بالولايات المتحدة لحين تقاعده في العام 2000.
· بالرغم من كونه برمج بلغة الالة بشكل مكثف في الخمسينات و لكنه اشتهر بنظرته الدونية لجملة GOTO المشهورة في عالم البرمجة . و قد نشر مقالة ذائعة الصيت بعنوان " قضية ضد جملة GOTO" ، ما يعتبره البعض من اهم اسباب تضاؤل شعبية هذه الجملة و استبدالها بأدوات السيطرة الهيكلية مثل دائرة التكرار while، مما تسبب بانتشار و ظهور البرمجة الهيكلية. بالاضافة الى انه كان دائم الاعتراض على تدريس لغة بيسك و هي من اللغات المثقلة باستخدام GOTO . عرف عنه ايضا كونه من انصار لغة البرمجة ALGOL 60 و قد عمل مع الفريق الذي قام ببرمجة اول مترجم للغة . الطريف ان دايجسترا و جاب زونفيلد تعاهدا على الا يحلقا ذقنيهما حتى ينتهيا من انشاء المترجم!
· في العام 1968 قام بكتابة مقالتين مهمتين عن هيكل نظام تشغيل متعدد البرمجة يدعى THE ، و عن مشاركة العمليات التسلسلية.
· اشتهر دايجسترا بعادته الغريبة في اهتمامه الشديد بتدوين مقالاته بخط يده و باستخدام قلم الحبر . هذه المقالات تبدا بـ EWD و هي اختصارات اسمه و من ثم رقم المقالة التسلسلي على طريقة ترقيم الرسائل لدى الشركات . و قد كان يعطي نسخا من مقالاته لزملائه و اصدقائه ثم ما يلبث ان يقوم هؤلاء بنشر تلك المقالات . المقالات متنوعة المواضيع من علوم الحاسب و الرياضيات الى الرسائل و المحاضرات انتهاء بالتقارير الشخصية كالرحلات . و قد تم تصوير اكثر من 1300 مقالة من هذه المقالات باستخدام الماسح الضوئي و نشرها في ارشيف جامعة تكساس الالكتروني .
· ما يجعلني شخصيا شديد الاعجاب بهذا الرجل هو انه على الرغم من كونه اخترع الكثير من تقنية البرامج و البرمجة الا انه تحاشى استخدام الكمبيوتر لاعماله الشخصية لعقود متتالية . اغلب مقالاته او كلهم بعد الـ 1972 كانت بخط يده . عند الشرح في محاضراته كان يستخدم الطباشير و لم يكن يستخدم عروض الباوربوينت او اي شيء من هذا القبيل . و في نهاية المطاف استسلم لضغوط اصدقائه و زملائه و اشترى جهاز كمبيوتر "ماكنتوش" و لكنه اقتصر على استخدامه في تصفح بعض المواقع و رسائل بريده الالكتروني . الان عزيزي القارئ قارن بين هذا العملاق و بيننا فجيلنا الذي لا يكاد الجوال الذكي يفارقه و يقضي الساعات الطوال في دردشات لا طائل منها .
· توفي في نيونن بهولندا في اليوم السادس من الشهر الثامن العام 2002 بعد معاناة و صراع مع مرض السرطان . في العام التالي قامت رابطة اجهزة الحوسبة باعادة تسمية احدى جوائزها لتعرف باسم جائزة دايجسترا و ذلك تخليدا و اعترافا بانجازاته القيمة في مجال الحوسبة و الرياضيات.
قليل من انجازاته و مساهماته العلمية :-
من السبعينات بدا ان اهتمام دايجسترا الرئيسي منصب على منهجية التحقيق . وقتها كانت الفكرة السائدة هي ان المبرمج يكتب البرنامج اولا و من ثم يقوم بتوفير البرهان الرياضي على الصحة . و لكن دايجسترا كان يرى ان البراهين الناتجة من هذه الطريقة طويلة و متعبة بالاضافة الى انها لا تقدم ايضاحا عن كيفية تطور البرنامج . فالطريقة البديلة هي الاشتقاق من البرنامج نفسه حيث يتم تطوير البرنامج و البرهان معا يدا بيد . فالبداية تكون بتحديد المواصفات الرياضية لتبيان هدف البرنامج و من ثم تطبيق التحولات الرياضية للمواصفات حتى تصل الى مرحلة البرنامج التنفيذي . و بالتالي يكون البرنامج النهائي صحيحا بالبناء . الاعمال اللاحقة لدايجسترا ركزت على تبسيط الحجج الرياضية ، ففي مقابلة صرح دايجسترا برغبة نحو الاناقة ، حيث ان الطريق الصحيح يتمثل في معالجة الافكار عقليا بدلا من محاولة تجسيم الافكار حتى تصل الى الاكتمال . هذه الطريقة تقف معارضة للطرق الدارجة لدى موزرات و بتهوفن . اضافة الى كل هذا فدايجسترا يعتبر من رائدي الحوسبة الموزعة .
بعض من مقولاته :
- علوم الحاسب الآلي لم تعد عن أجهزة الكمبيوتر مثلما ان علم الفلك لم يعد عن التلسكوبات.
- الأدوات التي نستخدمها لديها تأثير عميق على عاداتنا في التفكير ، وبالتالي قدرتنا على التفكير.
- يجب ان نكون حذرين في ابداء النصائح للجيل الشاب ، لانهم احيانا يعملون بالنصيحة !
-اختبار البرنامج يمكن أن يكون وسيلة فعالة جدا لاظهار وجود الاخطاء ، ولكنه عاجز عن إظهار عدم وجودها.
-من المستحيل عمليا تعليم البرمجة الجيدة للطلاب الذين تعلموا بيسك فهي قد شوهت عقليتهم .
- الى جانب الفهم الرياضي ، السيطرة الاستثنائية على اللغة الأم ( يقصد اي لغة حية ) هي اهم ما يحتاجه المبرمج .
- مرتان او اكثر ، استخدم for ( يقصد في البرمجة ).
- في الزمن السالف كان الفيزيائيون يعيدون تجارب زملائهم فقط لكي يطمئنوا ، اليوم يتمسك المبرمجون بفورتران لكي يشاركوا غيرهم برامجهم ، و ذلك يشمل مشاركة الاخطاء (bugs) ايضا .
:: فيما قاله (الان كي Alan kay) مازحا عن دايجسترا :
- ربما تعرفون ان الغطرسة في علوم الحاسب يتم حسابها بوحدة "نانو دايجسترا" .
بعض من الجوائز و التكريمات التي تحصل عليها :