نظر العارف (9) : رب ورقاء هتوف في الضحى
بسم الله الرحمن الرحيم
الابيات:
رب ورقاء هتوف في الضحى ... ذات شجو صدحت في فنن
ذكرت الفا و دهرا سالفا ... فبكت حزنا و هاجت حزني
فبكائي ربما ارقها ... و بكاها ربما ارقني
و لقد تشكو فلا افهمها ... و لقد اشكو فما تفهمني
غير اني بالجوى اعرفها ... و هي ايضا بالجوى تعرفني
اتراها بالبكا مولعة ... ام سقاها البين ما جرعني؟
الشاعر : ابوالحسين النوري
ابوالحسين احمد بن محمد النوري تـ 290 هـ ولد و نشأ في بغداد بغوي الاصل صحب السري السقطي و ابن ابي الحواري و كان من اقران الجنيد و كان كبير الشأن حسن المعاملة و اللسان . هذا ما ذكره القشيري في رسالته و يبدو ان الرجل عظيم المنزلة عندهم فقد ذكر عنه ان احمد المغازلي قال ما رايت اعبد من النوري قيل و لا الجنيد ؟ قال و لا الجنيد . و ذكروا من رياضته انه كان يخرج كل يوم من بيته و معه خبزه فيتصدق به في الطريق ثم يذهب الى المسجد فيصلي الى قريب الظهر ثم يفتح حانوته و يصوم فكان اهله يتوهمون انه يأكل في السوق و اهل السوق يتوهمون انه يأكل في البيت . قالوا بقي على هذا الحال في ابتدائه عشرين سنة . الابيات اعلاه منسوبة له مع قليل من القصائد الاخرى و من يدعى له هذا الشأن حري به ان يكون مقلا.
المعنى الادبي :
الابيات واضحة من هذه الناحية و لا تحتاج الى شرح و سيأتي شرح بعضها لغويا في نظر العارف بعد قليل . تجدر الاشارة الى نقطة واحدة هنا الا و هي ان هذه الابيات ذكرت في كتاب البلاغة الواضحة كمثال على ان الادباء لهم اختياراتهم من الكلمات الجميلة و الكلمات المتروكة و من باب المثال فإن كلمة " أيضا " كانت مستكرهة عندهم و كانت تعتبر من كلمات العلماء الى ان اوردها النوري في هذه الابيات فوضعها في مكان لا يتطلب سواها و لا يتقبل غيرها و روعة اثرها و حسنه من الوضوح بمكان .
نظر العارف :
الورقاء هنا بمعنى الروح اما قرأت عينية ابن سينا في وصف الروح ؟
هبطت اليك من المحل الارفع ... "ورقاء" ذات تعزز و تمنع
فهو كنى عن الروح بالورقاء ، اما لماذا الورقاء اي الحمامة في لونها بياض الى سواد و ليست ذات البياض الناصع مثلا؟ فلملاحظة كون الروح في النشأة الدنيا مرتبطة بالجسم و كثافته . و هذه الروح هتوف ذات شجو بمعنى كثيرة الصياح على ماضيها مليئة بالهم و الحزن فهي دائما في تذكر و حنين و شوق الى موطنها الاصلي أعني المكان الذي هبطت منه و هو العالم العلوي . و قد كثر الرمز للروح بالطير في الادب الفارسي و سنتكلم عن هذه النقطة تفصيلا في حلقة قادمة ان شاء الله . اما لماذا وقت الضحى ؟ فعادةً العشاق و المهمومون يختارون الليل و السحر طلبا للستر و صفاء الجو كما قال ابو فراس : اذا الليل اضواني بسطت يد الهوى و اذللت دمعا من خلائقه الكبر . فالسبب هنا هو ان الضحى وقت ذروة الانشغال بالدنيا و الضرب في الارض طلبا للرزق فكأنما الروح مشغولة بهمها عن هموم الدنيويين معرضة عما هم فيه . لذلك تجد من العرفاء من يحث على القيلولة الخفيفة في هذا الوقت بالذات لانك عندما ترى انشغال الناس و انهماكهم في دنياهم لا تكترث بهم و لا بدنياهم و تنام على الطريقة الطاوية ان صح التعبير . في البيت الثاني يشير الشاعر الى ان الروح دائما ما تتذكر عهد الالفة و الانس في العالم العلوي فتبكي تفجعا على الفراق و قد يقال انها تبكي على موطنها الاصلي و هذا المقصود من " حب الوطن من الايمان " ان صح هذا الحديث الذي حمل كثيرا من المعاني القومية المسيسة. و هذا الانفعال من الروح يولد الاحساس بالحزن في نفس الشاعر فيحزن تبعا لحزنها و لربما الانسان احيانا يحس فجأة باحساس الغربة و الحزن و لا يجد لهذا الاحساس تفسيرا فهو مرتاح في دنياه و لكن هذه الروح و ان كانت انست المجاورة على حد تعبير ابن سينا الا انها لا تنسى البكاء على وطنها فيجد الانسان في نفسه ذلك الاحساس بالغربة و عدم الانتماء لهذا العالم الحسي فلهذا نجد ان امير المؤمنين عليه السلام يكرر في مواطن مختلفة من خطبه حقيقة كون الانسان مسافرا "فإن الدنيا لم تخلق لكم دار مقام بل خلقت لكم مجازا " و "أهل الدنيا كركب يسار بهم و هم نيام " بل و يشير عليه السلام الى غربة الانسان المتقي و حزنه " و هو على وجل" و "قلوبهم محزونة". ثم في البيت الثالث يعود الشاعر ليشير الى ان هذه العلاقة متبادلة فهذه الروح ايضا تتأرق من بكائه لانها انست الى حد ما بهذا البدن و اصبحت بينها و بينه علاقة وشيجة فاذا ما انزعج هو لشيء من امور الدنيا من مرض و غيره انزعجت هي الاخرى فقل نشاطها لذلك هناك أهمية كبيرة للمحافظة على صحة الجسد و لهذا تجد الحث على اغتنام الشباب لانه فترة الصحة و نشاط الروح اما في الكبر و عجز الجسم بانواع الامراض يصعب على الروح و ان ارادت ان ترتفع بهمة الانسان لان الرجل مشغول بنفسه . اما سبب عدم فهمه لشكواها في البيت الرابع و عدم فهمها لشكواه فذلك لاختلاف الهموم فهي تحن الى عالم المجردات حيث الصفاء و ملاحظة جمال القدس و هو يشكو من الهموم الدنيوية و العشق لغيره من المخلوقين . لكن في البيت الخامس يذكر انه مع الفرق و البون الشاسع بين همومها و همومه الا انهما لا ريب يشتركان في نقطة مهمة الا و هي الجوى اي الحرقة و شدة الشوق فالانسان حتى لو احب حبا مجازيا لشخص مادي مثله الا ان هذه الحرقة حقيقية و قد تعتبر قنطرة يعبر من خلالها الى الحب الحقيقي اي ما تعيشه الروح فلذلك تجد ان بعضهم كان يرشد مريديه الى العشق المتعارف اولا ليعرف حقيقة الحب و اثاره ثم بعد ذلك يمكن ان يتكلم معه عن الحب الالهي فكيف يرجى من شخص قاسي القلب لا يعرف حتى ابسط مفردات الحب المتعارف من نشوة و وفاء و انتظار و لوعة و حبس للنفس و توحيد للهم و فناء في الاخر ان يرتقي الى الحب الحقيقي ؟ و في البيت الاخير يعلن الشاعر عجزه عن فهم هذه الروح و سبب بكائها فيتساءل هل هي فقط مولعة بالبكاء ام ان بكاءها سببه هو البين اي فراق المحبوب ؟ و الجواب قد تبين مما سبق ، نعم سقاها البين ما سقاه فهي نفس المعادلة : محب - محبوب = ألم الفراق الا ان المحبوب في المعادلتين ليس من نفس السنخ .
دمتم في الرضا ،
الابيات:
رب ورقاء هتوف في الضحى ... ذات شجو صدحت في فنن
ذكرت الفا و دهرا سالفا ... فبكت حزنا و هاجت حزني
فبكائي ربما ارقها ... و بكاها ربما ارقني
و لقد تشكو فلا افهمها ... و لقد اشكو فما تفهمني
غير اني بالجوى اعرفها ... و هي ايضا بالجوى تعرفني
اتراها بالبكا مولعة ... ام سقاها البين ما جرعني؟
الشاعر : ابوالحسين النوري
ابوالحسين احمد بن محمد النوري تـ 290 هـ ولد و نشأ في بغداد بغوي الاصل صحب السري السقطي و ابن ابي الحواري و كان من اقران الجنيد و كان كبير الشأن حسن المعاملة و اللسان . هذا ما ذكره القشيري في رسالته و يبدو ان الرجل عظيم المنزلة عندهم فقد ذكر عنه ان احمد المغازلي قال ما رايت اعبد من النوري قيل و لا الجنيد ؟ قال و لا الجنيد . و ذكروا من رياضته انه كان يخرج كل يوم من بيته و معه خبزه فيتصدق به في الطريق ثم يذهب الى المسجد فيصلي الى قريب الظهر ثم يفتح حانوته و يصوم فكان اهله يتوهمون انه يأكل في السوق و اهل السوق يتوهمون انه يأكل في البيت . قالوا بقي على هذا الحال في ابتدائه عشرين سنة . الابيات اعلاه منسوبة له مع قليل من القصائد الاخرى و من يدعى له هذا الشأن حري به ان يكون مقلا.
المعنى الادبي :
الابيات واضحة من هذه الناحية و لا تحتاج الى شرح و سيأتي شرح بعضها لغويا في نظر العارف بعد قليل . تجدر الاشارة الى نقطة واحدة هنا الا و هي ان هذه الابيات ذكرت في كتاب البلاغة الواضحة كمثال على ان الادباء لهم اختياراتهم من الكلمات الجميلة و الكلمات المتروكة و من باب المثال فإن كلمة " أيضا " كانت مستكرهة عندهم و كانت تعتبر من كلمات العلماء الى ان اوردها النوري في هذه الابيات فوضعها في مكان لا يتطلب سواها و لا يتقبل غيرها و روعة اثرها و حسنه من الوضوح بمكان .
نظر العارف :
الورقاء هنا بمعنى الروح اما قرأت عينية ابن سينا في وصف الروح ؟
هبطت اليك من المحل الارفع ... "ورقاء" ذات تعزز و تمنع
فهو كنى عن الروح بالورقاء ، اما لماذا الورقاء اي الحمامة في لونها بياض الى سواد و ليست ذات البياض الناصع مثلا؟ فلملاحظة كون الروح في النشأة الدنيا مرتبطة بالجسم و كثافته . و هذه الروح هتوف ذات شجو بمعنى كثيرة الصياح على ماضيها مليئة بالهم و الحزن فهي دائما في تذكر و حنين و شوق الى موطنها الاصلي أعني المكان الذي هبطت منه و هو العالم العلوي . و قد كثر الرمز للروح بالطير في الادب الفارسي و سنتكلم عن هذه النقطة تفصيلا في حلقة قادمة ان شاء الله . اما لماذا وقت الضحى ؟ فعادةً العشاق و المهمومون يختارون الليل و السحر طلبا للستر و صفاء الجو كما قال ابو فراس : اذا الليل اضواني بسطت يد الهوى و اذللت دمعا من خلائقه الكبر . فالسبب هنا هو ان الضحى وقت ذروة الانشغال بالدنيا و الضرب في الارض طلبا للرزق فكأنما الروح مشغولة بهمها عن هموم الدنيويين معرضة عما هم فيه . لذلك تجد من العرفاء من يحث على القيلولة الخفيفة في هذا الوقت بالذات لانك عندما ترى انشغال الناس و انهماكهم في دنياهم لا تكترث بهم و لا بدنياهم و تنام على الطريقة الطاوية ان صح التعبير . في البيت الثاني يشير الشاعر الى ان الروح دائما ما تتذكر عهد الالفة و الانس في العالم العلوي فتبكي تفجعا على الفراق و قد يقال انها تبكي على موطنها الاصلي و هذا المقصود من " حب الوطن من الايمان " ان صح هذا الحديث الذي حمل كثيرا من المعاني القومية المسيسة. و هذا الانفعال من الروح يولد الاحساس بالحزن في نفس الشاعر فيحزن تبعا لحزنها و لربما الانسان احيانا يحس فجأة باحساس الغربة و الحزن و لا يجد لهذا الاحساس تفسيرا فهو مرتاح في دنياه و لكن هذه الروح و ان كانت انست المجاورة على حد تعبير ابن سينا الا انها لا تنسى البكاء على وطنها فيجد الانسان في نفسه ذلك الاحساس بالغربة و عدم الانتماء لهذا العالم الحسي فلهذا نجد ان امير المؤمنين عليه السلام يكرر في مواطن مختلفة من خطبه حقيقة كون الانسان مسافرا "فإن الدنيا لم تخلق لكم دار مقام بل خلقت لكم مجازا " و "أهل الدنيا كركب يسار بهم و هم نيام " بل و يشير عليه السلام الى غربة الانسان المتقي و حزنه " و هو على وجل" و "قلوبهم محزونة". ثم في البيت الثالث يعود الشاعر ليشير الى ان هذه العلاقة متبادلة فهذه الروح ايضا تتأرق من بكائه لانها انست الى حد ما بهذا البدن و اصبحت بينها و بينه علاقة وشيجة فاذا ما انزعج هو لشيء من امور الدنيا من مرض و غيره انزعجت هي الاخرى فقل نشاطها لذلك هناك أهمية كبيرة للمحافظة على صحة الجسد و لهذا تجد الحث على اغتنام الشباب لانه فترة الصحة و نشاط الروح اما في الكبر و عجز الجسم بانواع الامراض يصعب على الروح و ان ارادت ان ترتفع بهمة الانسان لان الرجل مشغول بنفسه . اما سبب عدم فهمه لشكواها في البيت الرابع و عدم فهمها لشكواه فذلك لاختلاف الهموم فهي تحن الى عالم المجردات حيث الصفاء و ملاحظة جمال القدس و هو يشكو من الهموم الدنيوية و العشق لغيره من المخلوقين . لكن في البيت الخامس يذكر انه مع الفرق و البون الشاسع بين همومها و همومه الا انهما لا ريب يشتركان في نقطة مهمة الا و هي الجوى اي الحرقة و شدة الشوق فالانسان حتى لو احب حبا مجازيا لشخص مادي مثله الا ان هذه الحرقة حقيقية و قد تعتبر قنطرة يعبر من خلالها الى الحب الحقيقي اي ما تعيشه الروح فلذلك تجد ان بعضهم كان يرشد مريديه الى العشق المتعارف اولا ليعرف حقيقة الحب و اثاره ثم بعد ذلك يمكن ان يتكلم معه عن الحب الالهي فكيف يرجى من شخص قاسي القلب لا يعرف حتى ابسط مفردات الحب المتعارف من نشوة و وفاء و انتظار و لوعة و حبس للنفس و توحيد للهم و فناء في الاخر ان يرتقي الى الحب الحقيقي ؟ و في البيت الاخير يعلن الشاعر عجزه عن فهم هذه الروح و سبب بكائها فيتساءل هل هي فقط مولعة بالبكاء ام ان بكاءها سببه هو البين اي فراق المحبوب ؟ و الجواب قد تبين مما سبق ، نعم سقاها البين ما سقاه فهي نفس المعادلة : محب - محبوب = ألم الفراق الا ان المحبوب في المعادلتين ليس من نفس السنخ .
دمتم في الرضا ،