نظر العارف (8) : لا تدخل الحانة الا مراعيا للادب
بسم الله الرحمن الرحيم
بيت الشعر :
قدم منه به خرابات جز به شرط ادب ... که سالکان درش محرمان پادشهند
الترجمة العربية :
لا تدخل الحانة الا مراعيا للادب ... فسكانها محارم اسرار السلطان
الشاعر : حافظ و قد تقدم الكلام عنه .
المعنى الادبي :
هذا البيت من الغزل رقم 201 و الذي مطلعه :
شراب بیغش و ساقی خوش دو دام رهند ...که زیرکان جهان از کمندشان نرهند
الترجمة :
الشراب الصافي و الساقي ذو الوجه الحسن قاطعا الطريق ... اللذان لا ينجو منهما فطناء العالم
هذا الغزل من ابدع ما قاله حافظ الشيرازي و لا ينبغي ان نترجمه كاملا بل نكتفي بالكلام عن بيت واحد لكي نحاول ان نوفيه حقه . الخرابات المذكورة هنا تعني الحانة بالفارسية حيث كانت اماكن مجهزة لتعاطي الشراب و مصاحبة النساء . عليه فانه في هذا البيت يحذر الشاعر من ان يدخل احد الى الحانة الا مراعيا للادب الخاص بها و الا من الافضل له الا يدخلها اساسا . لان قدسية هذا المكان هي نتيجة طبيعية لقدسية ساكنيها فهؤلاء محارم اسرار السلطان و عدم احترام هذا المكان او سكانه قد ينتهي الى مشاكل و عقوبات الانسان في غنى عنها . و من المعروف ان السلاطين في تلك الازمنة كانوا يتخذون من بعض الشعراء و الظرفاء و حتى الفضلاء ندمانا لهم يسامرونهم في ليالي الانس فيكون الحديث عن العشق و الشراب و ما يسر الملك .
نظر العارف :
الخرابات هي ذلك المقام الذي تخرب و تنعدم فيه الملكات النفسانية و الصفات الحيوانية و تستبدل مكانها الملكات و الصفات الروحانية فإذا كمل هذا الامر بدأت اثار السكر المعنوي بالظهور . و المقصود هنا من الخرابات اماكن تجمع الاولياء و السالكين الذين هم في ذلك المقام الخراباتي و عليه لا يجوز الدخول الى هذه الامكنة الا مع مراعاة الادب التام مع سكانها لانهم محارم اسرار الله سبحانه و تعالى . قال العراقي :
اسرار خرابات به جز مست نداند / هشیار چه داند که در این کوی چه راز است؟
لا يعلم اسرار الخرابات الا السكران ... ما يُدري الصاحي بسر هذا المكان ؟
و اذا كانت اساءة الادب مع محارم اسرار السلطان تستوجب العقوبة فما بالك باساءة الادب في اماكن ذكر الله بل اعلى من هذا اساءة الادب مع اولياء الله ؟ و اذا كان الحديث في الحانات عن العشق و المعشوق فالحديث هنا كله عن معشوق واحد و لا يذكر احد غيره قال تعالى " في بيوت اذن الله ان ترفع و يذكر فيها اسمه " ، و من الذاكر هنا ؟ " يسبح له فيها بالغدو و الاصال رجال لا تلهيهم تجارة و لا بيع عن ذكر الله " فهؤلاء الاولياء ليس لهم الا هم واحد و ذكر متصل لا يشغلهم عنه شاغل . و دع عنك ما فسر البعض هذه البيوت بأنها بيوت عامة الناس من المسلمين فلا ادري ما شأن بيوت عامة الناس بل قد وردت الاحاديث في ان المقصود من هذه البيوت بيوت الانبياء و في غير مرة يذكر الراوي سؤال ابي بكر للنبي صلى الله عليه و اله و سلم هل بيت علي و فاطمة عليهما السلام منها ؟ فيجيبه صلى الله عليه و اله و سلم بأن بيت علي و فاطمة عليهما السلام من أفاضلها . اذاً المصداق الاتم لهذه الاية هم اهل بيت النبوة عليهم السلام و الدليل قول الامام الباقر عليه السلام لقتادة فقيه البصرة عندما اضطرب الاخير في مجلس الامام عليه السلام"... ويحك اتدري اين انت ؟ انت بين يدي ( بيوت اذن الله ان ترفع و يذكر فيها اسمه يسبح له بالغدو و الاصال رجال لا تلهيهم تجارة و لا بيع عن ذكر الله و اقام الصلاة و ايتاء الزكاة ) فأنت ثم و نحن اولئك ". و قد اختار السيد النجفي الحسينيات كمصداق بارز لاماكن الاولياء التي من يخل بالاداب الحسينية فيها يستوجب العقاب و الحرمان و هذه الحرمة بطبيعة الحال مكتسبة من حضور الاولياء اعني ما ورد في الاحاديث الكثيرة من انهم صلى الله عليهم يحضرون المجالس الحسينية اينما أقيمت . و في خصوص الشعائر الحسينية هناك اشارات كثيرة لوجوب مراعاة الادب فيها وصلت الى تعظيم التربة الحسينية و استحقاق العقوبة و الحرمان لمن يستخف بها و هذه العقوبات من باب الاسباب و العلل التكوينية التي لا يستثنى منها احد . و قد ذكر آية الله الشيخ بهجت رحمه الله في خصوص زيارة عاشوراء انها ثقيلة بمعنى ان من يريد ان يقرأها يجب ان يراعي ادابها و يقراها بتأدب و حضور تام و لم يذكر رحمه الله هذا القيد في بقية الاذكار .
فائدة : لماذا يستخدم العرفاء الفاظ العشق و الحانة ؟
هناك الكثير من الادباء و النقاد ممن يفسر الاشعار العرفانية على ظواهرها و يعتقدون ان الظاهر هو المعنى الحقيقي المراد للشاعر و على هذا تراهم ينسبون القبائح الى امثال حافظ و غيره متجاهلين القرائن الصارفة بل ان امثال حافظ و ابن عربي و غيرهما يصرحون في مواطن مختلفة انهم لا يريدون ظاهر اللفظ و يحذرون القارئ من ان ينسب اليهم ما لا يليق . اذا كان الحال هكذا يأتي السؤال المهم لماذا يستخدم العرفاء هذه الكلمات و الصور التي قد تدل على الفسق و الفجور ؟
ذكر الشهيد مطهري ان البعض قالوا انه بسبب التصريح وقع الكثير من العرفاء و الصوفية في مشاكل انتهت الى الاعدام احيانا فلهذا قرر المتأخرون ان يستخدموا التقية و يصبوا افكارهم في قوالب رمزية حذرا من العلماء و الفقهاء و عامة الناس . لكنه يرد هذا التبرير و يقول ان المتأخرين لم يكونوا يتحذرون من العامة و الفقهاء بل انهم ربما كانوا اصرح في كلامهم فهل الذي يريد التقية يستخدم صورا و كلمات تدل على الفسق و الكفر ؟ مثلا الكلام عن العشق و الخمر و وحدة الوجود و ما يشتم منه الجبر و العبثية و انكار المعاد و ما الى ذلك مما ينسب قائله الى الفسق تارة و الى الكفر تارة اخرى . ثم يأتي بتبرير عجيب من باب التندر فيقول ان البعض من القوميين الفرس قالوا ان امثال حافظ و الشبستري انما يستخدمون هذه الالفاظ كي يعلنوا افتخارهم باللغة الفارسية . و هذا التبرير من السخافة بمكان اذ ان هذه الطريقة في التعبير من الكلمات و الصور الشعرية ليست خاصة بالفرس اساسا و انما هناك ما يقابلها في اللغات الاخرى و خصوصا العربية .
ثم يعود - اعني الشهيد مطهري - ليقدم وجهة نظره فيقول ان العرفاء استخدموا هذه الالفاظ و القوالب لسببين :
السبب الاول (1): ان العرفاء يشيرون دائما الى ان اللغة قاصرة عن وصف تلك المعاني التي يعيشونها وجدانا فلذلك يحتاجون للرمز و يقولون ان من لم يعش التجربة بنفسه و يصل الى تلك المقامات المعنوية لن يستطيع فهم المعاني الكامنة خلف الرموز . أقول نسلم ان اللغة قاصرة عن وصف بعض المعاني و التجارب الوجدانية و هذا شيء متسالم عليه عند كل المدارس العرفانية في الشرق و الغرب و ربما الطاوية تعتبر اقدم و اكثر المدارس التي تصر على هذا المعنى و لكن يبقى السؤال في محله لماذا اختاروا الترميز بكلمات و صور العشق و المجون ؟ فاذا كانت المسألة فقط هي عجز اللغة عن ايصال المعاني و عليه الحاجة للترميز فلماذا لم يختاروا اية رموز اخرى غير الرموز المتداولة عند شعراء الفسق و المجون ؟ مثلا لماذا لم يستخدموا للترميز تعابير و مصطلحات فقهية من مثل السجادة و المسباح و الصلاة و الدعاء و ماء زمزم و الطواف و ما الى ذلك؟ اذن يبقى الاشكال صامدا و لا يندفع بهذا التبرير للشيخ المطهري.
السبب الثاني : ان من يريد ان يوصل معنى من المعاني يحتاج الى ان يقدمه بالشكل الاجمل و الابلغ و الذي يشد السامع و كلنا نعرف قوة الشعر في ايصال المعنى و رب قصيدة من ابيات معدودة لها من الاثر ما ليس للكتابات النثرية المطولة . عليه فإن بعض العرفاء ايضا قدموا افكارهم و معتقداتهم في قوالب شعرية جميلة و بليغة و امثال ابن الفارض و حافظ و مولوي خير دليل على تقبل العامة لهذه الطريقة و مدى تأثيرها على العامة فضلا عن الادباء و النقاد. أقول ان هذا التبرير يحل جزءا من المشكلة و لكن لا يحلها كليا نعم القوالب الشعرية و خصوصا الغزلية هي من اقوى انواع البيان و لا يخفى جمالها و مداعبتها لمشاعر عامة الناس فمن الصعب ان تجد شخصا لا يحركه الكلام عن الحب و لا يطرب له . لكن يمكن ان يناقش احدهم فيقول ان هناك قوالب شعرية جميلة اخرى لا تحتاج الى كل هذا التفسخ و المجون فلماذا يعرضون عنها و يستبدلونها بالغزل الحسي الصريح و معاقرة الخمر و التذمر من التدين و الزهد و ما الى ذلك ؟
اما من وجهة نظري فأرى ان التوجيه الصحيح هو انه فعلا العرفاء يريدون التصوير الاجمل و الابلغ و لذلك اختاروا القالب الغزلي الخمري و لكن ليست المسألة مسألة جمال فقط حتى يرد الاشكال السابق انما تم اختيار القالب الغزلي لانه اقرب ما يمكن تنزيل المعاني المعنوية اليه . بعبارة اخرى ان اغلب العبارات التي تستخدم في القالب الغزلي هي بعينها تستخدم في المعاني الاخرى التي يرمي لها العارف و لكن لاننا اعتدنا على المعنى المتبادر للفظ فنحن نفسر العبارات تفسيرا ظاهريا بحكم قرب المعنى الظاهري لنا في حياتنا اليومية . فعندما يتكلم العارف عن المعشوق ينصرف ذهننا الى ما اعتدنا عليه من معنى المعشوق الا و هي الفتاة الحسناء و الا المعشوق قد يطلق على اي شخص و اي شيء فالعارف عندما يتكلم عن المعشوق و يقصد الله سبحانه و تعالى فهو يريد مصداقا من مصاديق المعشوق . و هكذا الكلام عن الخمر و السكر فهي من باب المشترك اللفظي و لكن بما ان الناس اعتادت على ان الطريق الى السكر هو الخمر العنبي فهم يذهبون الى هذا المراد و ينسون ان هناك طرقا اخرى للسكر قد تكون هي مراد الشاعر . و لا اطيل بتقصي الالفاظ واحدة واحدة و لكن اقول قد يشكل احدهم فيقول ان المعنى المراد انما هو المعنى المتبادر و هذه ليست مشكلتي ان يقول الشاعر لفظا و لا يريد المعنى الاول المتبادر . فنقول اننا لسنا في مقام البيان العلمي حتى يشكل هذا الاشكال فالبيان الادبي و الشعري خاصة جماله في المعاني الخفية من تورية و ترميز و كناية و غيرها و عليه فان على القارئ ان يفهم ما يقال لا ان يكتفي بالظاهر ثم ان العرفاء دائما ما يتركون قرائن متصلة او منفصلة تدل على ان المعنى المراد ليس هو المعنى المتبادر من النظرة الاولى في كثير من الاحيان .
***
(1) في حقيقة الامر ذكرت تبريري الشيخ عكس ما ذكره هو، اعني ان التبرير الاول هنا هو الثاني عنده و الثاني هنا هو الاول عنده و انما قمت بعكس الترتيب بناء على طول التعليق هنا .
دمتم في الرضا ،
بيت الشعر :
قدم منه به خرابات جز به شرط ادب ... که سالکان درش محرمان پادشهند
الترجمة العربية :
لا تدخل الحانة الا مراعيا للادب ... فسكانها محارم اسرار السلطان
الشاعر : حافظ و قد تقدم الكلام عنه .
المعنى الادبي :
هذا البيت من الغزل رقم 201 و الذي مطلعه :
شراب بیغش و ساقی خوش دو دام رهند ...که زیرکان جهان از کمندشان نرهند
الترجمة :
الشراب الصافي و الساقي ذو الوجه الحسن قاطعا الطريق ... اللذان لا ينجو منهما فطناء العالم
هذا الغزل من ابدع ما قاله حافظ الشيرازي و لا ينبغي ان نترجمه كاملا بل نكتفي بالكلام عن بيت واحد لكي نحاول ان نوفيه حقه . الخرابات المذكورة هنا تعني الحانة بالفارسية حيث كانت اماكن مجهزة لتعاطي الشراب و مصاحبة النساء . عليه فانه في هذا البيت يحذر الشاعر من ان يدخل احد الى الحانة الا مراعيا للادب الخاص بها و الا من الافضل له الا يدخلها اساسا . لان قدسية هذا المكان هي نتيجة طبيعية لقدسية ساكنيها فهؤلاء محارم اسرار السلطان و عدم احترام هذا المكان او سكانه قد ينتهي الى مشاكل و عقوبات الانسان في غنى عنها . و من المعروف ان السلاطين في تلك الازمنة كانوا يتخذون من بعض الشعراء و الظرفاء و حتى الفضلاء ندمانا لهم يسامرونهم في ليالي الانس فيكون الحديث عن العشق و الشراب و ما يسر الملك .
نظر العارف :
الخرابات هي ذلك المقام الذي تخرب و تنعدم فيه الملكات النفسانية و الصفات الحيوانية و تستبدل مكانها الملكات و الصفات الروحانية فإذا كمل هذا الامر بدأت اثار السكر المعنوي بالظهور . و المقصود هنا من الخرابات اماكن تجمع الاولياء و السالكين الذين هم في ذلك المقام الخراباتي و عليه لا يجوز الدخول الى هذه الامكنة الا مع مراعاة الادب التام مع سكانها لانهم محارم اسرار الله سبحانه و تعالى . قال العراقي :
اسرار خرابات به جز مست نداند / هشیار چه داند که در این کوی چه راز است؟
لا يعلم اسرار الخرابات الا السكران ... ما يُدري الصاحي بسر هذا المكان ؟
و اذا كانت اساءة الادب مع محارم اسرار السلطان تستوجب العقوبة فما بالك باساءة الادب في اماكن ذكر الله بل اعلى من هذا اساءة الادب مع اولياء الله ؟ و اذا كان الحديث في الحانات عن العشق و المعشوق فالحديث هنا كله عن معشوق واحد و لا يذكر احد غيره قال تعالى " في بيوت اذن الله ان ترفع و يذكر فيها اسمه " ، و من الذاكر هنا ؟ " يسبح له فيها بالغدو و الاصال رجال لا تلهيهم تجارة و لا بيع عن ذكر الله " فهؤلاء الاولياء ليس لهم الا هم واحد و ذكر متصل لا يشغلهم عنه شاغل . و دع عنك ما فسر البعض هذه البيوت بأنها بيوت عامة الناس من المسلمين فلا ادري ما شأن بيوت عامة الناس بل قد وردت الاحاديث في ان المقصود من هذه البيوت بيوت الانبياء و في غير مرة يذكر الراوي سؤال ابي بكر للنبي صلى الله عليه و اله و سلم هل بيت علي و فاطمة عليهما السلام منها ؟ فيجيبه صلى الله عليه و اله و سلم بأن بيت علي و فاطمة عليهما السلام من أفاضلها . اذاً المصداق الاتم لهذه الاية هم اهل بيت النبوة عليهم السلام و الدليل قول الامام الباقر عليه السلام لقتادة فقيه البصرة عندما اضطرب الاخير في مجلس الامام عليه السلام"... ويحك اتدري اين انت ؟ انت بين يدي ( بيوت اذن الله ان ترفع و يذكر فيها اسمه يسبح له بالغدو و الاصال رجال لا تلهيهم تجارة و لا بيع عن ذكر الله و اقام الصلاة و ايتاء الزكاة ) فأنت ثم و نحن اولئك ". و قد اختار السيد النجفي الحسينيات كمصداق بارز لاماكن الاولياء التي من يخل بالاداب الحسينية فيها يستوجب العقاب و الحرمان و هذه الحرمة بطبيعة الحال مكتسبة من حضور الاولياء اعني ما ورد في الاحاديث الكثيرة من انهم صلى الله عليهم يحضرون المجالس الحسينية اينما أقيمت . و في خصوص الشعائر الحسينية هناك اشارات كثيرة لوجوب مراعاة الادب فيها وصلت الى تعظيم التربة الحسينية و استحقاق العقوبة و الحرمان لمن يستخف بها و هذه العقوبات من باب الاسباب و العلل التكوينية التي لا يستثنى منها احد . و قد ذكر آية الله الشيخ بهجت رحمه الله في خصوص زيارة عاشوراء انها ثقيلة بمعنى ان من يريد ان يقرأها يجب ان يراعي ادابها و يقراها بتأدب و حضور تام و لم يذكر رحمه الله هذا القيد في بقية الاذكار .
فائدة : لماذا يستخدم العرفاء الفاظ العشق و الحانة ؟
هناك الكثير من الادباء و النقاد ممن يفسر الاشعار العرفانية على ظواهرها و يعتقدون ان الظاهر هو المعنى الحقيقي المراد للشاعر و على هذا تراهم ينسبون القبائح الى امثال حافظ و غيره متجاهلين القرائن الصارفة بل ان امثال حافظ و ابن عربي و غيرهما يصرحون في مواطن مختلفة انهم لا يريدون ظاهر اللفظ و يحذرون القارئ من ان ينسب اليهم ما لا يليق . اذا كان الحال هكذا يأتي السؤال المهم لماذا يستخدم العرفاء هذه الكلمات و الصور التي قد تدل على الفسق و الفجور ؟
ذكر الشهيد مطهري ان البعض قالوا انه بسبب التصريح وقع الكثير من العرفاء و الصوفية في مشاكل انتهت الى الاعدام احيانا فلهذا قرر المتأخرون ان يستخدموا التقية و يصبوا افكارهم في قوالب رمزية حذرا من العلماء و الفقهاء و عامة الناس . لكنه يرد هذا التبرير و يقول ان المتأخرين لم يكونوا يتحذرون من العامة و الفقهاء بل انهم ربما كانوا اصرح في كلامهم فهل الذي يريد التقية يستخدم صورا و كلمات تدل على الفسق و الكفر ؟ مثلا الكلام عن العشق و الخمر و وحدة الوجود و ما يشتم منه الجبر و العبثية و انكار المعاد و ما الى ذلك مما ينسب قائله الى الفسق تارة و الى الكفر تارة اخرى . ثم يأتي بتبرير عجيب من باب التندر فيقول ان البعض من القوميين الفرس قالوا ان امثال حافظ و الشبستري انما يستخدمون هذه الالفاظ كي يعلنوا افتخارهم باللغة الفارسية . و هذا التبرير من السخافة بمكان اذ ان هذه الطريقة في التعبير من الكلمات و الصور الشعرية ليست خاصة بالفرس اساسا و انما هناك ما يقابلها في اللغات الاخرى و خصوصا العربية .
ثم يعود - اعني الشهيد مطهري - ليقدم وجهة نظره فيقول ان العرفاء استخدموا هذه الالفاظ و القوالب لسببين :
السبب الاول (1): ان العرفاء يشيرون دائما الى ان اللغة قاصرة عن وصف تلك المعاني التي يعيشونها وجدانا فلذلك يحتاجون للرمز و يقولون ان من لم يعش التجربة بنفسه و يصل الى تلك المقامات المعنوية لن يستطيع فهم المعاني الكامنة خلف الرموز . أقول نسلم ان اللغة قاصرة عن وصف بعض المعاني و التجارب الوجدانية و هذا شيء متسالم عليه عند كل المدارس العرفانية في الشرق و الغرب و ربما الطاوية تعتبر اقدم و اكثر المدارس التي تصر على هذا المعنى و لكن يبقى السؤال في محله لماذا اختاروا الترميز بكلمات و صور العشق و المجون ؟ فاذا كانت المسألة فقط هي عجز اللغة عن ايصال المعاني و عليه الحاجة للترميز فلماذا لم يختاروا اية رموز اخرى غير الرموز المتداولة عند شعراء الفسق و المجون ؟ مثلا لماذا لم يستخدموا للترميز تعابير و مصطلحات فقهية من مثل السجادة و المسباح و الصلاة و الدعاء و ماء زمزم و الطواف و ما الى ذلك؟ اذن يبقى الاشكال صامدا و لا يندفع بهذا التبرير للشيخ المطهري.
السبب الثاني : ان من يريد ان يوصل معنى من المعاني يحتاج الى ان يقدمه بالشكل الاجمل و الابلغ و الذي يشد السامع و كلنا نعرف قوة الشعر في ايصال المعنى و رب قصيدة من ابيات معدودة لها من الاثر ما ليس للكتابات النثرية المطولة . عليه فإن بعض العرفاء ايضا قدموا افكارهم و معتقداتهم في قوالب شعرية جميلة و بليغة و امثال ابن الفارض و حافظ و مولوي خير دليل على تقبل العامة لهذه الطريقة و مدى تأثيرها على العامة فضلا عن الادباء و النقاد. أقول ان هذا التبرير يحل جزءا من المشكلة و لكن لا يحلها كليا نعم القوالب الشعرية و خصوصا الغزلية هي من اقوى انواع البيان و لا يخفى جمالها و مداعبتها لمشاعر عامة الناس فمن الصعب ان تجد شخصا لا يحركه الكلام عن الحب و لا يطرب له . لكن يمكن ان يناقش احدهم فيقول ان هناك قوالب شعرية جميلة اخرى لا تحتاج الى كل هذا التفسخ و المجون فلماذا يعرضون عنها و يستبدلونها بالغزل الحسي الصريح و معاقرة الخمر و التذمر من التدين و الزهد و ما الى ذلك ؟
اما من وجهة نظري فأرى ان التوجيه الصحيح هو انه فعلا العرفاء يريدون التصوير الاجمل و الابلغ و لذلك اختاروا القالب الغزلي الخمري و لكن ليست المسألة مسألة جمال فقط حتى يرد الاشكال السابق انما تم اختيار القالب الغزلي لانه اقرب ما يمكن تنزيل المعاني المعنوية اليه . بعبارة اخرى ان اغلب العبارات التي تستخدم في القالب الغزلي هي بعينها تستخدم في المعاني الاخرى التي يرمي لها العارف و لكن لاننا اعتدنا على المعنى المتبادر للفظ فنحن نفسر العبارات تفسيرا ظاهريا بحكم قرب المعنى الظاهري لنا في حياتنا اليومية . فعندما يتكلم العارف عن المعشوق ينصرف ذهننا الى ما اعتدنا عليه من معنى المعشوق الا و هي الفتاة الحسناء و الا المعشوق قد يطلق على اي شخص و اي شيء فالعارف عندما يتكلم عن المعشوق و يقصد الله سبحانه و تعالى فهو يريد مصداقا من مصاديق المعشوق . و هكذا الكلام عن الخمر و السكر فهي من باب المشترك اللفظي و لكن بما ان الناس اعتادت على ان الطريق الى السكر هو الخمر العنبي فهم يذهبون الى هذا المراد و ينسون ان هناك طرقا اخرى للسكر قد تكون هي مراد الشاعر . و لا اطيل بتقصي الالفاظ واحدة واحدة و لكن اقول قد يشكل احدهم فيقول ان المعنى المراد انما هو المعنى المتبادر و هذه ليست مشكلتي ان يقول الشاعر لفظا و لا يريد المعنى الاول المتبادر . فنقول اننا لسنا في مقام البيان العلمي حتى يشكل هذا الاشكال فالبيان الادبي و الشعري خاصة جماله في المعاني الخفية من تورية و ترميز و كناية و غيرها و عليه فان على القارئ ان يفهم ما يقال لا ان يكتفي بالظاهر ثم ان العرفاء دائما ما يتركون قرائن متصلة او منفصلة تدل على ان المعنى المراد ليس هو المعنى المتبادر من النظرة الاولى في كثير من الاحيان .
***
(1) في حقيقة الامر ذكرت تبريري الشيخ عكس ما ذكره هو، اعني ان التبرير الاول هنا هو الثاني عنده و الثاني هنا هو الاول عنده و انما قمت بعكس الترتيب بناء على طول التعليق هنا .
دمتم في الرضا ،