على مكث
بسم الله الرحمن الرحيم
لو سئل احدنا عن السمة الغالبة على هذا العصر اعتقد ان الاجابة الاولى ستكون السرعة ، ففي هذا الزمن يبدو ان كل شيء يتسم بالسرعة من مطاعم الفاست فود الى ثقافة "التغريد" يبدو ان كل شيء يجب ان يؤدى على عجالة كي نستطيع ان ننتهي منه و ننتقل الى المهمة الاخرى . قبل سنوات و مع ازدهار برمجة الويب ظهرت موضة الكتب التي تتحدث عن تعلم لغات البرمجة في 10 دقائق او 24 يوما و ما الى ذلك . وقتها كتب المبرمج العريق بيتر نورفج مقالة يُستشهد بها الى الان تنتقد هذه الظاهرة و تدعو الى تعلم البرمجة في 10 سنوات . طبعا هو ينظر الى سعة مجال البرمجة و ان الاحاطة بجزء يسير منه يحتاج الى مدة طويلة من الدراسة المتأنية و لكن كما هو معروف لدى المبرمجين فهناك من يفضل استخدام الحلول الجاهزة و معالجة المشاكل بطريقة القص و اللصق ... نعم حتى في البرمجة يمكن ان تنجز الكثير بهذا المبدأ !
اذا كان الوضع هكذا في مجال معقد و دقيق كالبرمجة فما بالك بالمجالات الاخرى التي اصبحت الابحاث فيها تؤدى على طريقة البحث في جوجل و اختيار مقطوعة من هنا و مقطوعة من هناك. المشكلة ان هذه الظاهرة يروج لصالحها بشعارات الانتاجية و يبرر لها بتغير آليات و تقنيات العمل . الان يستطيع الكثير منا ان يكتب ابحاثا او مقالات و هو لا يملك ذلك الرصيد المعرفي و لا يحتاج الى زيارة المكتبات و لربما لم يلمس كتابا ورقيا منذ سنوات .
و لكن السؤال يبقى ما قيمة هذه الابحاث ؟ و ما قيمة المعرفة الانتقائية ؟ و ما الطوام التي يمكن لاصحابها ان يرتكبوها ؟ على كل حال هذه الاسئلة ليست محل اهتمامي هنا و هي لجديرة بأن تدرس في دراسات مفصلة .
ما اردت الكلام عنه هو لماذا كل هذه العجلة ؟ قد راج مؤخرا في اوساط المهتمين بعملية التعلم ان عدد الساعات التي نحتاجها للوصول الى مرحلة الاحترافية في اي مجال و تخصص هي حوالي عشرة الاف ساعة من التمرين المنتظم الموجه هذا يعني حوالي ثلاث ساعات يوميا لمدة تسع سنوات .
سألني البعض مرات كثيرة لماذا لا تنشر كتابا و لماذا تكتفي بالكتابة على مدونة مجهولة معزولة عن الزخم الاعلامي . انا مثل اي شخص او كاتب اخر افكر احيانا بنشر كتاب او كتابة رواية و لدي الكثير من هذه الافكار و المشاريع الغير مكتملة و لكن احب ان اترك لنفسي و لافكاري الوقت كي تأخذ حقها من النضج و كي استطيع ان اقدم كتابا فعلا يقدم شيئا جديدا او مميزا . اما مجرد تسويد الصفحات فما الفائدة المرجوة منه ؟ و لماذا الحرص على ان يكون في سيرتي الذاتية بعض العناوين ؟ و اني ليستوقفني سؤال طرحه الدكتور القمشئي اذ قال يجب على المشتغلين بالتأليف ان يسألوا انفسهم هل هذا الكتاب يقدم شيئا جديدا او ان الغرض هو تحصيل مبلغ مالي او سمعة و وجاهة ؟ اذا كان الجواب للمال او السمعة فالافضل ان لا تكتب و تضيع وقتك و وقت الناس و تضيع الاوراق و الاحبار . قرأت مؤخرا ان النتاج المكتوب للبشرية قد تضاعف بشكل خرافي بعد ظهور شبكات التواصل الاجتماعي و لا يخفى ضحالة هذا المحتوى و انه مجرد مضيعة للاوقات. رُبّ كتب لا تتجاوز المائة صفحة تربت عليها الاجيال طوال هذه القرون . طبعا انا لا ادعو الى عدم الكتابة و النشر و لكن ادعو الى التروي فما الحاجة لشاعر جديد ان يتعجل نشر ديوانه الاول بعد ان كتب بضع قصائد ربما عندما ينظر اليها لاحقا في مسيرته الشعرية قد يسقط جلها ؟ حقا ما الحاجة لكتابة مقال او دخول في نقاش عن تفسير آية كريمة و الرجل لم يأخذ وقته لكي يقرأ دورة واحدة كاملة لاحد التفاسير المطولة؟
دعنا من التأليف الان فقط مجرد النقاش الذي اصبح هواية الجميع مع ظهور المنتديات ثم شبكات التواصل ، ترانا نتكلم في نقد القصائد و الحكم على الدراسات التاريخية او الاجتماعية بل حتى الامور الدينية و احكامها لا عن رصيد ثقافي مسبق و لا عن دراسات مطولة في كتب النقد و التحليل و انما المسألة مجرد مسألة ذوق . لا اقول انه يجب على الكل ان يكون متخصصا قبل ان يبدي وجهة نظره و لكن اقول ربما احتاج الى وقفة تأمل قبل التسرع بالكلام و توزيع الاحكام جزافا ربما لا يضرني شيء اذا لم ابد رأيي في مسألة لم اطلع عليها من قبل و لا احيط بأبعادها.
عودة الى مسألة التأني و الصبر اين مضى زمان المشاريع الماراثونية ؟ عشرون سنة يقضيها الكليني في تأليف كتاب الكافي هذا الكتاب الذي لم يصنف مثله في الحديث ؟ اين ذهب امثال الملا صدرا الذي يعتزل لسنوات في قرية نائية ليخرج بفلسفة متعالية و يعالج اصعب المسائل الفلسفية ؟ ربما نعتقد ان امثال العلامة الطباطبائي مجرد عبقري يكتب من نتاج عقله و لكن قد نغفل تلك الساعات التي قضاها لقراءة كتاب البحار بكل مجلداته التي تفوق المائة. و العلامة حسن زاده الاملي قد نعجب من تراثه المهول و لكن يجب ان نعرف انه قضى عمره في القراءة و الكتابة و سهر الليالي لدرجة ان عيونه كانت تدمع دما و مع ذلك كان يواصل. ربما امثال هؤلاء بعيدون عن واقعنا ؟ لكن ماذا عن امثال كلاود شانون هذا العالم العبقري الذي يعتبر الاب لنظرية المعلومات فهو بموضوع مكون من قسمين استطاع ان يخلق تخصصا جديدا الى الان يعرف بنظرية المعلومات . الملفت للنظر ان هذا الرجل يعتبر عبقريا بكل المعايير و لكنه استغرق زهاء العقد من الزمن و العمل حتى يخرج بهذه النظرية و ليس ذلك فقط لصعوبة العمل و انما كما اشار من ارخ لحياته لطريقته في العمل حيث انه كان يعمل عليها بشكل ثانوي و لم يستعجل اخراجها للعالم . و بمناسبة الكلام عن هذا الرجل فقد استوقفني ما يحكى عنه من انه كان لا يحبذ ابداء النصح لاحد بحجة انه ليس لديه المؤهلات الكافية ، فإذا كان امثال هذا العالم من تواضعه يقول انه ليس بأهل فما حال امثالي ممن يقدم النصح في مسائل كالبرمجة و هو لا يملك جزءا من اجزاء مؤهلات هذا العالم. طبعا هذه امثلة من ميادين العلم و الا امثلة المشاريع الطويلة كثيرة في كل الميادين من رسم الى نحت الى عالم السينما فالمخرج فيليب غروننج تقدم في عام 1984 بطلب تصوير فيلم في احدى الكنائس النائية بجبال الالب حيث طلبت منه ادارة الكنيسة ان يعطيها فرصة للتفكير قبل الرد . و جاء الرد بالقبول بعد 16 سنة من الانتظار حينها قام بتصوير الفيلم الذي يوثق حياة الرهبان في هذه الكنيسة خلال ستة اشهر و من ثم بدأ بتحرير الفيلم بأناة لمدة امتدت الى سنتين و نصف قبل ان يُخرج هذا الفيلم الى العالم.
في النهاية اذا كان امثال هؤلاء ممن يعملون في اقصى جبهات العلم و يتنافسون مع عباقرة تخصصاتهم يأخذون وقتهم للتفكير و يعطون الفرصة لافكارهم للنضوج فما الداعي للاستعجال في اخراج مقال او كتاب او ديوان؟ و قد ورد " انما يعجل من يخاف الفوت " .
دمتم في الرضا ،
لو سئل احدنا عن السمة الغالبة على هذا العصر اعتقد ان الاجابة الاولى ستكون السرعة ، ففي هذا الزمن يبدو ان كل شيء يتسم بالسرعة من مطاعم الفاست فود الى ثقافة "التغريد" يبدو ان كل شيء يجب ان يؤدى على عجالة كي نستطيع ان ننتهي منه و ننتقل الى المهمة الاخرى . قبل سنوات و مع ازدهار برمجة الويب ظهرت موضة الكتب التي تتحدث عن تعلم لغات البرمجة في 10 دقائق او 24 يوما و ما الى ذلك . وقتها كتب المبرمج العريق بيتر نورفج مقالة يُستشهد بها الى الان تنتقد هذه الظاهرة و تدعو الى تعلم البرمجة في 10 سنوات . طبعا هو ينظر الى سعة مجال البرمجة و ان الاحاطة بجزء يسير منه يحتاج الى مدة طويلة من الدراسة المتأنية و لكن كما هو معروف لدى المبرمجين فهناك من يفضل استخدام الحلول الجاهزة و معالجة المشاكل بطريقة القص و اللصق ... نعم حتى في البرمجة يمكن ان تنجز الكثير بهذا المبدأ !
اذا كان الوضع هكذا في مجال معقد و دقيق كالبرمجة فما بالك بالمجالات الاخرى التي اصبحت الابحاث فيها تؤدى على طريقة البحث في جوجل و اختيار مقطوعة من هنا و مقطوعة من هناك. المشكلة ان هذه الظاهرة يروج لصالحها بشعارات الانتاجية و يبرر لها بتغير آليات و تقنيات العمل . الان يستطيع الكثير منا ان يكتب ابحاثا او مقالات و هو لا يملك ذلك الرصيد المعرفي و لا يحتاج الى زيارة المكتبات و لربما لم يلمس كتابا ورقيا منذ سنوات .
و لكن السؤال يبقى ما قيمة هذه الابحاث ؟ و ما قيمة المعرفة الانتقائية ؟ و ما الطوام التي يمكن لاصحابها ان يرتكبوها ؟ على كل حال هذه الاسئلة ليست محل اهتمامي هنا و هي لجديرة بأن تدرس في دراسات مفصلة .
ما اردت الكلام عنه هو لماذا كل هذه العجلة ؟ قد راج مؤخرا في اوساط المهتمين بعملية التعلم ان عدد الساعات التي نحتاجها للوصول الى مرحلة الاحترافية في اي مجال و تخصص هي حوالي عشرة الاف ساعة من التمرين المنتظم الموجه هذا يعني حوالي ثلاث ساعات يوميا لمدة تسع سنوات .
سألني البعض مرات كثيرة لماذا لا تنشر كتابا و لماذا تكتفي بالكتابة على مدونة مجهولة معزولة عن الزخم الاعلامي . انا مثل اي شخص او كاتب اخر افكر احيانا بنشر كتاب او كتابة رواية و لدي الكثير من هذه الافكار و المشاريع الغير مكتملة و لكن احب ان اترك لنفسي و لافكاري الوقت كي تأخذ حقها من النضج و كي استطيع ان اقدم كتابا فعلا يقدم شيئا جديدا او مميزا . اما مجرد تسويد الصفحات فما الفائدة المرجوة منه ؟ و لماذا الحرص على ان يكون في سيرتي الذاتية بعض العناوين ؟ و اني ليستوقفني سؤال طرحه الدكتور القمشئي اذ قال يجب على المشتغلين بالتأليف ان يسألوا انفسهم هل هذا الكتاب يقدم شيئا جديدا او ان الغرض هو تحصيل مبلغ مالي او سمعة و وجاهة ؟ اذا كان الجواب للمال او السمعة فالافضل ان لا تكتب و تضيع وقتك و وقت الناس و تضيع الاوراق و الاحبار . قرأت مؤخرا ان النتاج المكتوب للبشرية قد تضاعف بشكل خرافي بعد ظهور شبكات التواصل الاجتماعي و لا يخفى ضحالة هذا المحتوى و انه مجرد مضيعة للاوقات. رُبّ كتب لا تتجاوز المائة صفحة تربت عليها الاجيال طوال هذه القرون . طبعا انا لا ادعو الى عدم الكتابة و النشر و لكن ادعو الى التروي فما الحاجة لشاعر جديد ان يتعجل نشر ديوانه الاول بعد ان كتب بضع قصائد ربما عندما ينظر اليها لاحقا في مسيرته الشعرية قد يسقط جلها ؟ حقا ما الحاجة لكتابة مقال او دخول في نقاش عن تفسير آية كريمة و الرجل لم يأخذ وقته لكي يقرأ دورة واحدة كاملة لاحد التفاسير المطولة؟
دعنا من التأليف الان فقط مجرد النقاش الذي اصبح هواية الجميع مع ظهور المنتديات ثم شبكات التواصل ، ترانا نتكلم في نقد القصائد و الحكم على الدراسات التاريخية او الاجتماعية بل حتى الامور الدينية و احكامها لا عن رصيد ثقافي مسبق و لا عن دراسات مطولة في كتب النقد و التحليل و انما المسألة مجرد مسألة ذوق . لا اقول انه يجب على الكل ان يكون متخصصا قبل ان يبدي وجهة نظره و لكن اقول ربما احتاج الى وقفة تأمل قبل التسرع بالكلام و توزيع الاحكام جزافا ربما لا يضرني شيء اذا لم ابد رأيي في مسألة لم اطلع عليها من قبل و لا احيط بأبعادها.
عودة الى مسألة التأني و الصبر اين مضى زمان المشاريع الماراثونية ؟ عشرون سنة يقضيها الكليني في تأليف كتاب الكافي هذا الكتاب الذي لم يصنف مثله في الحديث ؟ اين ذهب امثال الملا صدرا الذي يعتزل لسنوات في قرية نائية ليخرج بفلسفة متعالية و يعالج اصعب المسائل الفلسفية ؟ ربما نعتقد ان امثال العلامة الطباطبائي مجرد عبقري يكتب من نتاج عقله و لكن قد نغفل تلك الساعات التي قضاها لقراءة كتاب البحار بكل مجلداته التي تفوق المائة. و العلامة حسن زاده الاملي قد نعجب من تراثه المهول و لكن يجب ان نعرف انه قضى عمره في القراءة و الكتابة و سهر الليالي لدرجة ان عيونه كانت تدمع دما و مع ذلك كان يواصل. ربما امثال هؤلاء بعيدون عن واقعنا ؟ لكن ماذا عن امثال كلاود شانون هذا العالم العبقري الذي يعتبر الاب لنظرية المعلومات فهو بموضوع مكون من قسمين استطاع ان يخلق تخصصا جديدا الى الان يعرف بنظرية المعلومات . الملفت للنظر ان هذا الرجل يعتبر عبقريا بكل المعايير و لكنه استغرق زهاء العقد من الزمن و العمل حتى يخرج بهذه النظرية و ليس ذلك فقط لصعوبة العمل و انما كما اشار من ارخ لحياته لطريقته في العمل حيث انه كان يعمل عليها بشكل ثانوي و لم يستعجل اخراجها للعالم . و بمناسبة الكلام عن هذا الرجل فقد استوقفني ما يحكى عنه من انه كان لا يحبذ ابداء النصح لاحد بحجة انه ليس لديه المؤهلات الكافية ، فإذا كان امثال هذا العالم من تواضعه يقول انه ليس بأهل فما حال امثالي ممن يقدم النصح في مسائل كالبرمجة و هو لا يملك جزءا من اجزاء مؤهلات هذا العالم. طبعا هذه امثلة من ميادين العلم و الا امثلة المشاريع الطويلة كثيرة في كل الميادين من رسم الى نحت الى عالم السينما فالمخرج فيليب غروننج تقدم في عام 1984 بطلب تصوير فيلم في احدى الكنائس النائية بجبال الالب حيث طلبت منه ادارة الكنيسة ان يعطيها فرصة للتفكير قبل الرد . و جاء الرد بالقبول بعد 16 سنة من الانتظار حينها قام بتصوير الفيلم الذي يوثق حياة الرهبان في هذه الكنيسة خلال ستة اشهر و من ثم بدأ بتحرير الفيلم بأناة لمدة امتدت الى سنتين و نصف قبل ان يُخرج هذا الفيلم الى العالم.
في النهاية اذا كان امثال هؤلاء ممن يعملون في اقصى جبهات العلم و يتنافسون مع عباقرة تخصصاتهم يأخذون وقتهم للتفكير و يعطون الفرصة لافكارهم للنضوج فما الداعي للاستعجال في اخراج مقال او كتاب او ديوان؟ و قد ورد " انما يعجل من يخاف الفوت " .
دمتم في الرضا ،