علو الهمة ، ضعف الهمة ، رداءة الهمة
بسم الله الرحمن الرحيم
ابتداء يجب ان نوضح عنوان المقالة فنقول ..:
قال الخواجة رحمه الله ".. و لان قوى النفس الانسانية محصورة في ثلاثة انواع كما قلنا:
الاول : قوة التمييز
الثاني : قوة الدفع
الثالث : قوة الجذب
يمكن تصور انحرافات كل واحد من الجنسين . فهو يقوى من الخلل الموجود في الكمية او من الخلل الموجود في الكيفية . او هو من تجاوز الاعتدال في جانب الزيادة او هو من تجاوز الاعتدال في جانب النقصان و بناء على هذا يمكن ان تكون امراض كل قوة من الاجناس الثلاثة اما بحسب الافراط او بحسب التفريط او بحسب الرداءة". انتهى كلامه رحمه الله .
اذا بحسب الكلام اعلاه يمكن تقسيم الهمة و امراضها الى عدة انواع:
المختل من جانب التفريط: و هو ضعف الهمة و مثاله التكاسل عن طلب العلم و العجز عن ترك رذائل الاخلاق و غيره.
المختل من جانب الرداءة: و هو رداءة الهمة و مثاله شخص عالي الهمة ظاهرا و لكن همته مصروفة في طلب شيء قبيح او شيء لا يفيده . مثلا شخص يصرف همته في حفظ مئات او آلاف من الابيات الشعرية الماجنة او الاغاني الرخيصة. فهذا يبذل جهدا و لكن لا يسمى هذا الرجل لدى العقلاء بذي همة عالية بل همته رديئة.
المختل من جانب الافراط : و هو صاحب همة عالية جدا و لكن همته في طلب شيء معين (و ان كان جيدا) تخرج من الاعتدال الى الافراط بحيث مثلا تعطل الجوانب الحيوية الاخرى في حياته مثلا الانشغال بالعبادة او طلب العلم لكن يبقى عالة على من يصرف عليه او يترك التزويج ..الخ.
و اما النوع الاخير و الصفة المحمودة في الاعتدال بالهمة و الاعتدال في الهمة هو علو الهمة الحقيقي لانه قلنا ان الافراط في علو الهمة خلل اذا يكون الاعتدال هو المطلوب و العلو المنشود.
الآن و قد اتضحت لدينا الصورة ، قد يتخذ شخص ضعيف الهمة كلامنا عن الاعتدال ذريعة فيتعذر بها انه يخشى الافراط ! لكن الحقيقة اننا نجهل قوى الانسان الحقيقة لذلك قد وضعنا لانفسنا سقفا نتحجج به ان هذا هو المقدار الطبيعي، او احيانا نقارن انفسنا بالمجتمع المحيط بنا فنقول اننا احسنا صنعا فنحن على الاقل نقرأ كتابا كل شهرين او ثلاثة ؟! .. و سنستعرض بعضا من الامثلة قد يكون تصنيف اغلبها تحت باب رداءة الهمة في حقيقة الامر و لكن الاستشهاد بها ليس من باب صحتها من خللها و انما من باب الاطلاع على بعض قدرات الانسان في التحمل و الاصرار و ان الهمة العالية تؤتي نتائج خرافية قد لا يصدقها العقل.
نبدأ بداشراث مانجهي او كما عرف لاحقا بـ”رجل الجبل”. هذا الرجل الهندي خسر زوجته لان اقرب قرية يوجد بها طبيب و علاج تبعد 70 كيلومترا. و لكي لا تتكرر المأساة لأحد مرة اخرى قرر ان يقوم وحيدا بحفر طريق يشق الجبل الذي يفصله عن القرية . بعد 22 سنة (1960-1982) من العمل المتواصل ليلا و نهارا استطاع ان يحفر طريقا بطول 110 مترا و بارتفاع يصل الى 7 امتار و نصف، و عرض يبلغ 9 امتار. طريقه اختصر المسافة بين قريته و المقاطعة الاخرى من اكثر من 70 كيلومترا الى كيلو متر واحد فقط !
http://en.wikipedia.org/wiki/Dashrath_Manjhi
جاداف مولاي باينج رجل هندي آخر كان يبلغ من العمر 16 سنة عندما بدأ بالحرث و زرع الاشجار ليخلق بعد 30 سنة من العمل المتواصل لوحده غابة تبلغ مساحتها 1360 هكتارا ما يعادل تقريبا 5503724 مترا مربعا. الآن و قد بلغ من العمر الـ 47 سنة يعيش في الغابة التي صنعها بيده مع اسرته الصغيرة المكونة من زوجة و ثلاثة اطفال .
http://www.huffingtonpost.com/2012/04/03/indian-man-jadav-molai-pa_n_1399930.html
" بوديدارما " احد اشهر الشخصيات في التاريخ البوذي و من اكثرها تأثيرا ، و هو من ادخل الزن الى الصين من الهند. الاساطير التي تروى عنه كثيرة و لكن مما يروى عنه انه مكث تسع سنوات جالسا مقابلا للجدار يتأمل (هذه الطريقة تدعى بـ wall gazing)، قد ينكر احدهم هذا الامر و لكن القصص المثبتة للبوذيين في هذا الصدد كثيرة و لا يستبعد ابدا هكذا شيء من اكبر شخصياتهم المعروفة بجلد النفس . و سآتي بمثالين لا يوجد شك في صحة تحققهما ..:
المثال الاول :
راهبة بوذية حبست نفسها 45 سنة في غرفة معزولة عن العالم الخارجي (باستثناء اتصال بسيط مثل ادخال الطعام لها) ، حيث تقضي كل وقتها في الدعاء للبشرية . الى فترة قريبة لم يكن احد ليراها و لكنها ظهرت اخيرا في هذا الفيديو :
http://www.youtube.com/watch?v=ZQ50fOmSBrU
المثال الثاني :
كان مجموعة من الرهبان اليابانيين يخضعون لعملية طويلة و شاقة تدعى بـ Sokushinbutsu.
باختصار هذه العملية تبدأ بـ 1000 يوم من الجوع يكتفي فيها الراهب بأكل بعض الحبوب و يخضع لبرنامج بدني قاس لإسقاط الدهون كليا. بعد هذه المرحلة تبدأ مرحلة اخرى تستغرق 1000 يوم اخرى من الجوع و احتساء نوع من الشاي المحضر من الاعشاب السامة ما يؤدي الى اسهال شديد و قيء تساعد على اضعاف الجسم و لكن الاهم انه بعد فترة يصبح الجسم مسموما و لا يصلح حتى للطفيليات لأن تعيش فيه . الآن تبدا المرحلة الاخيرة حيث يحفر للراهب غرفة صغيرة يجلس فيها جلسة “اللوتس” للتأمل و يدفن و يبقى متصلا بالعالم الخارجي من خلال انبوب للتنفس و جرس يقرعه مرة يوميا ليخبر الناس بانه حي . طبعا سيموت الراهب من الجوع و عندما لا يسمع الجرس يقومون بسحب الانبوب و الانتظار 1000 يوم اخرى . اخيرا يأتي احد الرهبان و يفتح القبر فاذا رأى جسم الراهب لم يتحلل ينادى بانه وصل الى مرحلة بوذا و تؤخذ بقاياه و توضع في المعبد للمشاهدة و التبرك !. اذا قرابة العشر سنوات من التعذيب و الجوع للوصول الى موت اختياري بهدف الوصول الى التنوير او عدم تحلل الجسم ؟!
طبعا هذه كانت من قصص الفلكلور الياباني و لم يكن احد ليصدقها لولا اكتشاف عدد من الجثث تصل الى 16 او 24 جثة باقية كمومياء فعلا ، و لكن يعتقد بان الذين مارسوا هذه العملية يصلون الى المئات . طبعا لكم ان تتخيلوا كم من اصرار و صبر تحتاج هذه العملية ابتداء من الجوع الى الضعف ، الهلوسة ، المرض ، القيء ، الاسهال ، حدة المزاج …الخ.
http://en.wikipedia.org/wiki/Sokushinbutsu
لنكتفي بهذا القدر من الامثلة فقصص الانسان في الهمة التي تحمله على الصبر على ما تكرهه نفسه لا تنتهي ابتداء من العباد الذين يصومون الدهر و يقومون الليالي ، مرورا بالعلماء الذين يقضون اكثر من 20 سنة في تصنيف كتاب واحد . فقط انوه اخيرا بان الامثلة اعلاه يجمعها شيء واحد انها اختيارية بمعنى ان ابطالها كتبوا على انفسهم الالتزام و حمل النفس على ما يشق بخلاف البعض ممن ظهرت لديه قوة تحمل و اصرار تمسكا بالحياة عندما الجأته الظروف ..
بعد هذا كله ربما يتبين لنا اننا نطلب الاشياء بأسعار رخيصة ! مثلا ..:
بخمس صلوات يوميا ننقرها نقر الغراب لا تأخذ اكثر من نصف ساعة (في غالب الظن مع ذهن شارد)، اريد ان اصبح رباني مستجاب الدعوة ؟!
بقراءة كتاب كل شهر او اكثر اريد ان اصبح مثقفا مفكرا ! هل تعلم ان فتح علي شاه القاجاري قام بقراءة موسوعة بريتنكا الاصدار الثالث من الغلاف الى الغلاف و هذه الموسوعة وقتها كانت تتألف من 18 مجلدا . فاذا كان هذا ملك من ملوك القاجار لم تشغله الحروب الكثيرة التي خاضها و الفتيات الجميلات و ادارة الدولة عن قراءة موسوعة كاملة من الغلاف الى الغلاف فما بقي لنا نحن كي نتعذر بالاشغال؟
فضلا عن الموسوعات و كتب الدورات هذه الايام لا توجد لدينا همة حتى في انهاء الدورات المبسطة المتناثرة على صحفات الانترنت بالصوت ، بالصورة او كتابة. في زماننا اصبحت الاهمية فقط للنتائج لذلك دائما ناخذ الطرق المختصرة و الاقل جهدا في البرمجة ، في التصميم و غيرها نريد اساسيات بسيطة ثم نقفز للانتاج و العمل ، لدرجة ان البعض يتحجج بالثورة المعلوماتية فيقول انه لا داعي للحفظ و التعلم المعمق لان المعلومة يمكن الوصول اليها وقت الحاجة بمجرد بحث سريع و هذا بالضبط ما يؤدي الى المآسي فقد تنجح هذه الطريقة في احيان كثيرة و لكن ما مدى الكارثة التي قد تقع لو افترضنا طبيبا يعالج المرضى من خلال البحث في الانترنت ؟! او عالم يفتي الناس من خلال البحث ..الخ.
لا نريد ان نصبح مثل الفرزدق كما قيل انه حفظ القرآن الكريم بعد ان قيد رجليه و لم يفتح القيد الا بعد ان انتهى من حفظ كتاب الله ، و لكن الا يمكننا فعلا ان نخطط و نستمر على الخطة لتحقيق الهدف ؟ الاغلب اننا لا نحفظ الا بعض سور قصار و هي للصلاة فقط ! ربما نكتفي بالقدر او الكوثر مثلا و نرددها في كل صلاة ، طيب و الادعية ؟ الخطب ؟ الاحاديث ؟ الاشعار؟ هل حفظنا شيئا ، هل مثلا اذا لم يتوفر كتاب الدعاء بالقرب منا نستطيع ان ندعو الله بما نحفظه ام ان اللسان سينخرس ؟! لا اعلم ربما قرائي الاعزاء اصحاب همة عالية و لربما كون همتي ضعيفة -اربعة ايام بجلسات متفرقة لكتابة هذه المقالة !- جعلتني ارى المجتمع حولي مجتمعا ضعيفا في هذا السياق و لكن ربما ينطبق علي قولهم “كلن يرى الناس بعين طبعه” . في النهاية “بل الانسان على نفسه بصيرة” لذلك ساعترف باني شخصيا على الاقل اتضجر و اتأذى من قراءة قصص اصحاب الهمم خاصة الرديئة منها لانهم يخجلون ايماني الذي لا يدفعني للاستزادة باصرار لا دنيويا و لا اخرويا ..
“سبحان ربك رب العزة عما يصفون * و سلام على المرسلين * و الحمد لله رب العالمين”