على مشارف الانتحار
بسم الله الرحمن الرحيم
حاليا اقرأ كتابا بعنوان " عن قصر الحياة " و هو للفيلسوف الروماني الرواقي سنكا و قد اتى الكتاب في فترة غريبة اذ كنت منشغلا بالقراءة عن ديفيد فوستر والاس الكاتب الامريكي المعاصر . الغريب انني كنت منهمكا في قراءة مقالة عن اعمال والاس و انصدمت حينما بدأت المقالة تتكلم عن اسباب انتحار الكاتب الامريكي فإني لم اكن اعلم بأن الكاتب انتحر في العام 2008 و دائما كنت اعتقد انه لا يزال على قيد الحياة فالرجل في اربعينيات عمره . كنت اخطط لقراءة شيء من اعماله فلا يمكن لاي شخص مهتم بأدب و فكر ما بعد الحداثة ان يتجاهل هذا الكاتب الشاب الواعد . على اية حال نقاط التشابه بين سنكا و والاس كثيرة على الرغم من البعد الزمني الذي ربما يمتد الى مشارف الالفي عام . و لنبدا بنقطة الانتحار فسنكا ايضا مات منتحرا و لكن القضية تختلف في تفاصيلها فهو اجبر على قطع بعض اوردته و من ثم عانى من موت بطيء بسبب ضعف جسمه و قلة اندفاع الدم مما ادى الى طول المعاناة و تأخر الموت . اللطيف ان زوجته ايضا حاولت الانتحار بنفس الطريقة و لكن يبدو ان الامبراطور امر بتضميد جراحها و قد تشافت منها لاحقا و لم تعد الى محاولة الانتحار مرة اخرى . اما والاس فقد انهى حياته باختياره تلك الحياة التي عانى فيها الاكتئاب على مدى سنوات طويلة و كان مجمل حياته يعيش على العقاقير المضادة للاكتئاب فلا غرابة في ان ينتهي هذه النهاية المأساوية . لقد وجدته زوجته و قد شنق نفسه و قد ترك على الطاولة رسالة انتحاره و يبدو انه ترك ايضا جزءا مرتبا و معدا لرواية كان منشغلا بكتابتها تم نشرها بعد وفاته بشكل غير مكتمل. اوجه الشبه بين الفيلسوف العجوز و المفكر الشاب - الذي درس الفلسفة تخصصا- لا تنتهي هنا فهناك الكثير و الكثير من اوجه التشابه في فكرهما هذا مع انني لم اطلع بشكل مكثف لا على نتاج هذا الفيلسوف الرواقي و لا الكاتب الانطوائي . آه الانطواء ! نعم كلاهما لديه كلام في مدح الانطواء بل ربما الاصح ان اقول العزلة فالقارىء لسير الفلاسفة الرواقيين يجد ان هذه السمة من سمات فلسفتهم فهناك تحدي للقيم الدارجة عند المجتمع و التي نحتاج الى ان نأخذ مسافة ( عزلة ) من المجتمع كي نستطيع ان نفكر بصفاء و حرية بدلا من السلبية في التلقين اللاشعوري الذي يعيشه الفرد في المجتمعات المتمدنة . و اننا نجد ان والاس يضرب على هذا الوتر كثيرا في اعماله بل في خطبته لحفل التخرج الجامعي و المعنونة بـ" هذا الماء" نجد انه يضع الاهمية القصوى لمسألة الوعي بالمسائل التي نأخذها اخذ المسلمات فعنده ان اصعب الاشياء رؤية هي اقرب الاشياء الى العين و لذلك هو يفتتح خطبته بقصة السمكات و الماء هذه الخطبة التي تم طباعتها على شكل كتاب لاحقا و قد لاقت رواجا و اعجابا شديدا و اني لانصح بقراءتها . و لعل من ابرز الاسئلة التي يحاول كلا الفيلسوفين معالجتها هو سؤال ما الذي يجعل الحياة حياة ذات معنى ؟ فوالاس يحاول ان يعالج هذه المشكلة من اللاهدفية في جيل يعصف به الإعلام باشكاله المختلفة بداية من التلفاز مرورا بالسينما و انتهاءً بالانترنت و الثورة الرقمية حيث يبدو ان كلها تتصارع للسيطرة على ما تبقى من تركيز هذا العقل المسكين . و لقد اشار والاس الى مشكلة يعاني منها الادب في حلته المتأخرة حيث انه استطاع ان يوظف التهكم و المفارقات لاماطة اللثام عن المشاكل العصرية و لكنه لم يقدم الحل البديل . و يبدو لي ان والاس الى اخريات عمره كان منشغلا بهذا الامر فهو كان يريد ابتكار نمط جديد من الادب يستطيع ان يحل المشاكل لا ان يضع اصبعه عليها فقط . سينكا من جهته يناقش هذه المسألة في شكلها الاساسي و يبدا في كتابه عن قصر الحياة بطرح اسئلة مباشرة و صريحة قد تصدم القارئ فهو يتناول حقيقة قصر الحياة في بداية الكتاب و يحاول ان يفكك حياة الفرد الى اجزاء يشير الى انها في غالب الامر اوقات ضائعة و بذلك تكون الحياة اقصر حتى مما نتصور ثم يستطرد بذكر الامثلة و يذكر مثلا ذلك الامبراطور الفارسي الذي عندما وقف امام جنوده و قد اصطفوا في صفوف بالالاف نراه يبكي عندما يتذكر ان بعد 100 سنة سيموت هو و كل جنوده و لن يبقى من هؤلاء احد و لكن المفارقة انه بعد ايام يدخل هذا الامبراطور الى المعركة بحرا فيهزم اسطوله ثم يقتل ما تبقى في المعركة على البر و لا يكاد يبقى الا القليل ممن فر هنا او هناك ! و كأن سنكا يشير هنا اضافة الى قصر الحياة الى حقيقة انها قد تنتهي بشكل مفاجئ فما جدوى طول الامل . نعم كم من زوج مات و لم يمهله القدر ان يدخل بعروسته و كم من شخص عانى الليالي لكي يسكن بيت العمر كي يتوفى قبيل اكتماله . و بمناسبة ذكر طول الامل يذكر سنكا قصة رجل جشع كان همه ان يأكل اصناف الاكلات النادرة و الفاخرة و بعد سنوات من الاكل اكتشف ان عليه ديونا مستحقة كبيرة و انه بعد استيفاء الديون سيبقى له مبلغ كبير من المال و لكنه لن يكون كافيا لمواصلة اسلوب حياته المترف فما كان منه الا ان ينتحر بالسم فهو لا يستطيع ان يعيش حياة خالية من الاكلات النادرة الفاخرة ! حقيقة لم اكن اعلم الى ان قرات هذا الكتاب كمية الرفاهية التي كان يتمتع بها الناس في تلك القرون البالية فمن عجائب ما ذكره سنكا عن الاشخاص المترفين قصة رجل في زمانه من شدة ترفه انه عندما حُمل و وضع على راحلته يسأل من حوله هل هو الان جالس ام لا ؟! يبدو ان الرفاهية المترفة اوصلته الى مرحلة لا يعي فيها حتى بجسمه . ثم ينطلق سنكا للبحث حول ما يجعل من هذه الحياة حياة ذات معنى ؟ و قد بدأ سنكا و بكل قسوة بتحطيم كل المفاهيم المعتادة عن الحياة السعيدة الهادفة فهو يمر على الاجوبة المعتادة ليحطمها بكل شراسة فمثلا من يرون ان العمل هو ما يعطي الحياة معنى نرى ان سنكا لا يؤمن بهذه النظرية بل نراه يسخر من الذين يكون عملهم هو هويتهم فنراه يذكر قصة رجل بلغ التسعين من عمره و قد كان يعمل في بلاط الامبراطور فأحاله الامبراطور الى التقاعد لكبر سنه فما كان من هذا الرجل المسكين الا ان ذهب الى بيته و تسجى على فراشه ثم اتى بعائلته و خدمه و امرهم بان يقيموا المناحة عليه و كأنه رجل ميت ! يقول سنكا ان الامبراطور اشفق عليه و اعاده الى العمل رافة به ، و ليت شعري امثال هذا الرجل في زماننا كُثر فهم مساكين لا يستطيعون اخفاء خواء حياتهم الا بستار العمل حتى و لو كان هذا العمل روتينيا لا مغزى منه في احدى الشركات العملاقة او ما يعرف بعالم الكوربرت . و قد قرأت مؤخرا مقالة يطرح فيها الكاتب السؤال الغريب " هل الافضل ترك التزويج لصالح التفرغ للوظيفة ؟ " و يذكر ان هذا السؤال كان يطرح بشكل جدي على مر التاريخ و ان الاجابة كانت في الاغلب بـ " نعـم " اكيدة . و يضيف انه الى بداية القرن العشرين كانت الوظائف الاكاديمية في انجلترا في الغالب للعزاب بل ان بعضها من شروط التقدم ان تكون عازبا ! اذا كان هذا موروثنا كصنف بشري فلا غرابة اننا الان يطلب منا التضحية من اجل العمل و ان يكون هو المقدم على الجوانب الاخرى.
عند سنكا لا يمكن للرجل المشغول البال ان يعيش الحياة بشكلها الحقيقي فهو يلهث من مهمة الى اخرى و لا يفيق من سكرته الا قبيل الموت و قد انتهت الرحلة و لن يبقى حينها الا الندم و الحسرة على السنوات الضائعة . المشكلة في الرجل المشغول انه اما مشغول بالتحسر على الماضي او انه يخطط او يخشى المستقبل و من هذا حاله لا يستطيع ان يعيش الحاضر لانه مشغول عنه اما بتكرار الماضي الاليم او بالتطلع الى المستقبل الموهوم . هذه النقطة هي من الاهمية بمكان و لهذا نجد ان البوذية و الهندوسية و الطاوية و الروحانية الجديدة تدعو الى الحياة في فعل المضارع و تجاهل الماضي و المستقبل هذه الفلسفة قد يمكن تلخيصها بمقولة مدرسة الزن " عندما تأكل كل ، عندما تنام نم " و قد سألوا احد الرهبان ما الذي تجيده فأجاب اني عندما انام فإني انام ، فقيل له و ما الفن في هذا الامر كل الناس تنام فقال لا انا اذا نمت فإني انام و اما الناس عندما تنام تحلم ! الحقيقة اننا فعلا لا نجيد هذا الامر على وضوحه و بداهته فمن منا يأكل حقا و يستشعر ما يأكل؟ في الغالب اننا نأكل و بالنا في مكان اخر و لا ننتبه الا و الوجبة قد انتهت ، هذا البال الغائب المشغول بأمور اخرى هو ما يعنيه سنكا بالرجل ذي البال المشغول . لكن لنا ان نسأل هل مجرد العيش في الحاضر كفيل بأن يعطي لحياتنا معنى ؟ لنفرض انني عشت حياة هكذا استمتع بكل لحظة من الامور التي انشغل بها هل يمكن ان يقال انني عشت حياة ذات معنى ؟ ربما يمكن القول انني عشت حياتي لاقصاها و هذا ما يروج له بعض كتاب الغرب و لكن لا اعتقد ان هذا كاف لوصف حياتي بانها حياة ذات معنى . من هنا ايضا نرى ان سنكا يحاكم كل امر يمكن ان نقضي به وقتنا فليس كل شيء و ان كان ذا فائدة يستحق ان نخصص له وقتا من حياتنا القصيرة ، و قد اشرت سابقا الى كلام الملاصدرا في تفاضل العلوم فإنه يرى انه ليس كل علم يستحق ان نقضي كل عمرنا فيه و انما العلوم مراتب و طبيعي بما ان الانسان حياته قصيرة فيجب عليه ان يأخذ بالانفع لا بالنافع . نعم كل كتاب فيه فائدة كما يقولون و لكن ليس من الحكمة ان اقضي عشرات الساعات في قراءة كتاب ثم اكون خرجت بفائدة او فائدتين و قد كان بامكاني ان اقرا كتابا آخر فاخرج بمئات الفوائد . عندما يتكلم سنكا عن اضافة عمرنا القصير الى الماضي كي يصبح طويلا و لربما خالدا فهو يشير الى قراءة الفلاسفة السابقين و دمج افكارهم بهويتنا بحيث تكون حياتنا امتدادا طبيعيا للفكر الماضي . و اما الطريق الى ذلك فهو بمجالستهم و مناقشتهم بقراءة اعمالهم الخالدة و هذا ديدن العظماء من المفكرين كما يشير الدكتور الديناني بخصوص فيلسوفنا العظيم نصير الدين الطوسي الملقب بالفيلسوف المحاور . نعم هو كما قال الشاعر العربي و خير جليس في الزمان كتاب ، و لكن مع مراعاة حسن الاختيار فليس كل كتاب خير . و لا يتوهم القارئ الكريم ان سنكا يدعو الى معرفة نظرية عندما يدعو الى الفلسفة فهو لا يدعو الى جدال و نظريات و وهم و سفسطات. نعم هذه الفلسفة المتعارف عليها الان قد تنطبق عليها هذه العناوين و لكن الفلسفة التي يدعو اليها سنكا هي تلك الفلسفة الحقيقية التي يعبر عنها القران بالحكمة فهي تدعو الى تهذيب النفس و الترفع عن الرذائل بحيث ان الذي يمارسها يصبح انسانا مقدسا - حسب تعبير سنكا -.
و للكلام بقية
حاليا اقرأ كتابا بعنوان " عن قصر الحياة " و هو للفيلسوف الروماني الرواقي سنكا و قد اتى الكتاب في فترة غريبة اذ كنت منشغلا بالقراءة عن ديفيد فوستر والاس الكاتب الامريكي المعاصر . الغريب انني كنت منهمكا في قراءة مقالة عن اعمال والاس و انصدمت حينما بدأت المقالة تتكلم عن اسباب انتحار الكاتب الامريكي فإني لم اكن اعلم بأن الكاتب انتحر في العام 2008 و دائما كنت اعتقد انه لا يزال على قيد الحياة فالرجل في اربعينيات عمره . كنت اخطط لقراءة شيء من اعماله فلا يمكن لاي شخص مهتم بأدب و فكر ما بعد الحداثة ان يتجاهل هذا الكاتب الشاب الواعد . على اية حال نقاط التشابه بين سنكا و والاس كثيرة على الرغم من البعد الزمني الذي ربما يمتد الى مشارف الالفي عام . و لنبدا بنقطة الانتحار فسنكا ايضا مات منتحرا و لكن القضية تختلف في تفاصيلها فهو اجبر على قطع بعض اوردته و من ثم عانى من موت بطيء بسبب ضعف جسمه و قلة اندفاع الدم مما ادى الى طول المعاناة و تأخر الموت . اللطيف ان زوجته ايضا حاولت الانتحار بنفس الطريقة و لكن يبدو ان الامبراطور امر بتضميد جراحها و قد تشافت منها لاحقا و لم تعد الى محاولة الانتحار مرة اخرى . اما والاس فقد انهى حياته باختياره تلك الحياة التي عانى فيها الاكتئاب على مدى سنوات طويلة و كان مجمل حياته يعيش على العقاقير المضادة للاكتئاب فلا غرابة في ان ينتهي هذه النهاية المأساوية . لقد وجدته زوجته و قد شنق نفسه و قد ترك على الطاولة رسالة انتحاره و يبدو انه ترك ايضا جزءا مرتبا و معدا لرواية كان منشغلا بكتابتها تم نشرها بعد وفاته بشكل غير مكتمل. اوجه الشبه بين الفيلسوف العجوز و المفكر الشاب - الذي درس الفلسفة تخصصا- لا تنتهي هنا فهناك الكثير و الكثير من اوجه التشابه في فكرهما هذا مع انني لم اطلع بشكل مكثف لا على نتاج هذا الفيلسوف الرواقي و لا الكاتب الانطوائي . آه الانطواء ! نعم كلاهما لديه كلام في مدح الانطواء بل ربما الاصح ان اقول العزلة فالقارىء لسير الفلاسفة الرواقيين يجد ان هذه السمة من سمات فلسفتهم فهناك تحدي للقيم الدارجة عند المجتمع و التي نحتاج الى ان نأخذ مسافة ( عزلة ) من المجتمع كي نستطيع ان نفكر بصفاء و حرية بدلا من السلبية في التلقين اللاشعوري الذي يعيشه الفرد في المجتمعات المتمدنة . و اننا نجد ان والاس يضرب على هذا الوتر كثيرا في اعماله بل في خطبته لحفل التخرج الجامعي و المعنونة بـ" هذا الماء" نجد انه يضع الاهمية القصوى لمسألة الوعي بالمسائل التي نأخذها اخذ المسلمات فعنده ان اصعب الاشياء رؤية هي اقرب الاشياء الى العين و لذلك هو يفتتح خطبته بقصة السمكات و الماء هذه الخطبة التي تم طباعتها على شكل كتاب لاحقا و قد لاقت رواجا و اعجابا شديدا و اني لانصح بقراءتها . و لعل من ابرز الاسئلة التي يحاول كلا الفيلسوفين معالجتها هو سؤال ما الذي يجعل الحياة حياة ذات معنى ؟ فوالاس يحاول ان يعالج هذه المشكلة من اللاهدفية في جيل يعصف به الإعلام باشكاله المختلفة بداية من التلفاز مرورا بالسينما و انتهاءً بالانترنت و الثورة الرقمية حيث يبدو ان كلها تتصارع للسيطرة على ما تبقى من تركيز هذا العقل المسكين . و لقد اشار والاس الى مشكلة يعاني منها الادب في حلته المتأخرة حيث انه استطاع ان يوظف التهكم و المفارقات لاماطة اللثام عن المشاكل العصرية و لكنه لم يقدم الحل البديل . و يبدو لي ان والاس الى اخريات عمره كان منشغلا بهذا الامر فهو كان يريد ابتكار نمط جديد من الادب يستطيع ان يحل المشاكل لا ان يضع اصبعه عليها فقط . سينكا من جهته يناقش هذه المسألة في شكلها الاساسي و يبدا في كتابه عن قصر الحياة بطرح اسئلة مباشرة و صريحة قد تصدم القارئ فهو يتناول حقيقة قصر الحياة في بداية الكتاب و يحاول ان يفكك حياة الفرد الى اجزاء يشير الى انها في غالب الامر اوقات ضائعة و بذلك تكون الحياة اقصر حتى مما نتصور ثم يستطرد بذكر الامثلة و يذكر مثلا ذلك الامبراطور الفارسي الذي عندما وقف امام جنوده و قد اصطفوا في صفوف بالالاف نراه يبكي عندما يتذكر ان بعد 100 سنة سيموت هو و كل جنوده و لن يبقى من هؤلاء احد و لكن المفارقة انه بعد ايام يدخل هذا الامبراطور الى المعركة بحرا فيهزم اسطوله ثم يقتل ما تبقى في المعركة على البر و لا يكاد يبقى الا القليل ممن فر هنا او هناك ! و كأن سنكا يشير هنا اضافة الى قصر الحياة الى حقيقة انها قد تنتهي بشكل مفاجئ فما جدوى طول الامل . نعم كم من زوج مات و لم يمهله القدر ان يدخل بعروسته و كم من شخص عانى الليالي لكي يسكن بيت العمر كي يتوفى قبيل اكتماله . و بمناسبة ذكر طول الامل يذكر سنكا قصة رجل جشع كان همه ان يأكل اصناف الاكلات النادرة و الفاخرة و بعد سنوات من الاكل اكتشف ان عليه ديونا مستحقة كبيرة و انه بعد استيفاء الديون سيبقى له مبلغ كبير من المال و لكنه لن يكون كافيا لمواصلة اسلوب حياته المترف فما كان منه الا ان ينتحر بالسم فهو لا يستطيع ان يعيش حياة خالية من الاكلات النادرة الفاخرة ! حقيقة لم اكن اعلم الى ان قرات هذا الكتاب كمية الرفاهية التي كان يتمتع بها الناس في تلك القرون البالية فمن عجائب ما ذكره سنكا عن الاشخاص المترفين قصة رجل في زمانه من شدة ترفه انه عندما حُمل و وضع على راحلته يسأل من حوله هل هو الان جالس ام لا ؟! يبدو ان الرفاهية المترفة اوصلته الى مرحلة لا يعي فيها حتى بجسمه . ثم ينطلق سنكا للبحث حول ما يجعل من هذه الحياة حياة ذات معنى ؟ و قد بدأ سنكا و بكل قسوة بتحطيم كل المفاهيم المعتادة عن الحياة السعيدة الهادفة فهو يمر على الاجوبة المعتادة ليحطمها بكل شراسة فمثلا من يرون ان العمل هو ما يعطي الحياة معنى نرى ان سنكا لا يؤمن بهذه النظرية بل نراه يسخر من الذين يكون عملهم هو هويتهم فنراه يذكر قصة رجل بلغ التسعين من عمره و قد كان يعمل في بلاط الامبراطور فأحاله الامبراطور الى التقاعد لكبر سنه فما كان من هذا الرجل المسكين الا ان ذهب الى بيته و تسجى على فراشه ثم اتى بعائلته و خدمه و امرهم بان يقيموا المناحة عليه و كأنه رجل ميت ! يقول سنكا ان الامبراطور اشفق عليه و اعاده الى العمل رافة به ، و ليت شعري امثال هذا الرجل في زماننا كُثر فهم مساكين لا يستطيعون اخفاء خواء حياتهم الا بستار العمل حتى و لو كان هذا العمل روتينيا لا مغزى منه في احدى الشركات العملاقة او ما يعرف بعالم الكوربرت . و قد قرأت مؤخرا مقالة يطرح فيها الكاتب السؤال الغريب " هل الافضل ترك التزويج لصالح التفرغ للوظيفة ؟ " و يذكر ان هذا السؤال كان يطرح بشكل جدي على مر التاريخ و ان الاجابة كانت في الاغلب بـ " نعـم " اكيدة . و يضيف انه الى بداية القرن العشرين كانت الوظائف الاكاديمية في انجلترا في الغالب للعزاب بل ان بعضها من شروط التقدم ان تكون عازبا ! اذا كان هذا موروثنا كصنف بشري فلا غرابة اننا الان يطلب منا التضحية من اجل العمل و ان يكون هو المقدم على الجوانب الاخرى.
عند سنكا لا يمكن للرجل المشغول البال ان يعيش الحياة بشكلها الحقيقي فهو يلهث من مهمة الى اخرى و لا يفيق من سكرته الا قبيل الموت و قد انتهت الرحلة و لن يبقى حينها الا الندم و الحسرة على السنوات الضائعة . المشكلة في الرجل المشغول انه اما مشغول بالتحسر على الماضي او انه يخطط او يخشى المستقبل و من هذا حاله لا يستطيع ان يعيش الحاضر لانه مشغول عنه اما بتكرار الماضي الاليم او بالتطلع الى المستقبل الموهوم . هذه النقطة هي من الاهمية بمكان و لهذا نجد ان البوذية و الهندوسية و الطاوية و الروحانية الجديدة تدعو الى الحياة في فعل المضارع و تجاهل الماضي و المستقبل هذه الفلسفة قد يمكن تلخيصها بمقولة مدرسة الزن " عندما تأكل كل ، عندما تنام نم " و قد سألوا احد الرهبان ما الذي تجيده فأجاب اني عندما انام فإني انام ، فقيل له و ما الفن في هذا الامر كل الناس تنام فقال لا انا اذا نمت فإني انام و اما الناس عندما تنام تحلم ! الحقيقة اننا فعلا لا نجيد هذا الامر على وضوحه و بداهته فمن منا يأكل حقا و يستشعر ما يأكل؟ في الغالب اننا نأكل و بالنا في مكان اخر و لا ننتبه الا و الوجبة قد انتهت ، هذا البال الغائب المشغول بأمور اخرى هو ما يعنيه سنكا بالرجل ذي البال المشغول . لكن لنا ان نسأل هل مجرد العيش في الحاضر كفيل بأن يعطي لحياتنا معنى ؟ لنفرض انني عشت حياة هكذا استمتع بكل لحظة من الامور التي انشغل بها هل يمكن ان يقال انني عشت حياة ذات معنى ؟ ربما يمكن القول انني عشت حياتي لاقصاها و هذا ما يروج له بعض كتاب الغرب و لكن لا اعتقد ان هذا كاف لوصف حياتي بانها حياة ذات معنى . من هنا ايضا نرى ان سنكا يحاكم كل امر يمكن ان نقضي به وقتنا فليس كل شيء و ان كان ذا فائدة يستحق ان نخصص له وقتا من حياتنا القصيرة ، و قد اشرت سابقا الى كلام الملاصدرا في تفاضل العلوم فإنه يرى انه ليس كل علم يستحق ان نقضي كل عمرنا فيه و انما العلوم مراتب و طبيعي بما ان الانسان حياته قصيرة فيجب عليه ان يأخذ بالانفع لا بالنافع . نعم كل كتاب فيه فائدة كما يقولون و لكن ليس من الحكمة ان اقضي عشرات الساعات في قراءة كتاب ثم اكون خرجت بفائدة او فائدتين و قد كان بامكاني ان اقرا كتابا آخر فاخرج بمئات الفوائد . عندما يتكلم سنكا عن اضافة عمرنا القصير الى الماضي كي يصبح طويلا و لربما خالدا فهو يشير الى قراءة الفلاسفة السابقين و دمج افكارهم بهويتنا بحيث تكون حياتنا امتدادا طبيعيا للفكر الماضي . و اما الطريق الى ذلك فهو بمجالستهم و مناقشتهم بقراءة اعمالهم الخالدة و هذا ديدن العظماء من المفكرين كما يشير الدكتور الديناني بخصوص فيلسوفنا العظيم نصير الدين الطوسي الملقب بالفيلسوف المحاور . نعم هو كما قال الشاعر العربي و خير جليس في الزمان كتاب ، و لكن مع مراعاة حسن الاختيار فليس كل كتاب خير . و لا يتوهم القارئ الكريم ان سنكا يدعو الى معرفة نظرية عندما يدعو الى الفلسفة فهو لا يدعو الى جدال و نظريات و وهم و سفسطات. نعم هذه الفلسفة المتعارف عليها الان قد تنطبق عليها هذه العناوين و لكن الفلسفة التي يدعو اليها سنكا هي تلك الفلسفة الحقيقية التي يعبر عنها القران بالحكمة فهي تدعو الى تهذيب النفس و الترفع عن الرذائل بحيث ان الذي يمارسها يصبح انسانا مقدسا - حسب تعبير سنكا -.
و للكلام بقية