سير في منازل السائرين - للخواجه الانصاري
بسم الله الرحمن الرحيم
1- المؤلف في سطور :
قال الذهبي في تذكرة الحفاظ : (( ابو اسماعيل عبدالله بن محمد بن علي بن محمد بن احمد بن علي بن جعفر بن منصور بن مت الانصاري الهروي ، من ذرية ابي ايوب الانصاري . ولد سنة ست و تسعين و ثلاثمائة )) .
تربى الانصاري منذ صغره على طلب العلم فدرس عند يحيى بن عمار الشيباني و كان هذا الاخير ممن يحاولون ان يوفقوا بين علوم الشريعة و العلوم الكشفية فلذلك تأثر شيخنا بأستاذه . هذا بالاضافة الى تألقه في حفظ القران الكريم و الاشعار العربية بفضل ذاكرته القوية و قال الشعر و هو ابن 9 سنوات.
و الغريب انه على الرغم من ان اساتذته كانوا شافعيين و لكنه اختار المذهب الحنبلي . سافر الى نيشابور ثم الى طوس و الى بسطام لطلب الحديث . و في سنة 423سافر لاداء الحج و توقف عند بغداد ليحضر درس ابو محمد الخلال البغدادي . و في طريق العودة زار الصوفي المعروف ابو الحسن الخرقاني و هنا تبلورت نزعته الصوفية التي غرسها من قبل والده .
ومن اساتذته في التصوف ايضا الصوفي ابوسعيد ابو الخير. و بعد هذه الرحلات عاد الى موطنه ليشتغل بالتدريس و تربية المريدين . هذا و يجب التنويه بأن الشيخ كان معاديا لعلم الكلام بشكل مفرط و قد كتب في ذم هذا العلم و رد على الفقيه الشافعي آنذاك و الذي كان متكلما . و يرجع سبب عداء الشيخ الشديد لعلم الكلام كونه حنبلي المذهب و الحنابلة معروفون بعدائهم لعلم الكلام .
له القاب كثيرة منها : شيخ الاسلام ، شيخ السالكين ، العجوز الهروي .
كان بارعا في الحديث و التفسير و اللغة و التصوف ، مقبولا عند العامة و الخاصة ، و لذلك كان محسود كثيرين ، و قد سعوا بدمه مرارا – على ما ينقله الذهبي – و لم يتمكنوا ، بل صار ذلك سبب اقبال الناس اليه ،و لكنه نفي من مسقط راسه عدة مرات.
و نقل عن ابي طاهر قوله : (( و سمعته بهراة : عرضت على السيف خمس مرات لا يقال لي ارجع عن مذهبك ! ، و لكن يقال لي : اسكت عمن خالفك . فأقول لا اسكت . و سمعته يقول : احفظ اثني عشر الف حديث ، اسردها سردا )).
يقول الذهبي في تذكرته : (( قال ابو سعد السمعاني : كان مظهرا للسنة ، داعيا اليها ، محرضا عليها ، و كان مكتفيا بما يباسط به المريدين ، ما كان يأخذ من الظلمة شيئا و ما كان يتعدى اطلاق ما ورد في الظواهر من الكتاب و السنة ، معتقدا ما صح ، و غير مصرح بما يقتضيه تشبيه . و قال من لم ير مجلسي و تذكيري فطعن فيّ ، فهو مني في حل ! )) .
قال ابو نصر الفامي : توفي ابو اسماعيل في ذي الحجة سنة احدى و ثمانين و اربعمائة ، و قد جاوز اربعا و ثمانين سنة ، و كان قد فقد بصره قبل وفاته.
و هذا و للشيخ العديد من المؤلفات منها :
تفسيرکشفُ الاَسرار و عدة الابرار
انس المريد
انوار التحقيق
تفسير آيه الخلق
ذم الکلام
شمس المجالس
منازل السائرين الی الحق
ديوان شعر
هذا و احببت ان اذكر في ختام كلامنا عن المؤلف انه لم يكن يقيم وزنا لابي موسى الاشعري ! حتى قيل انه كفره.
2- منزلة الكتاب و شراحه :-
منازل السائرين اشهر كتاب في ذكر منازل النفس على ترتيب صناعي و اسلوب تعليمي ، و للانصاري رسائل اخرى بالفارسية على سياقه ، و اكملها و اقربها الى المنازل (صد ميدان ) و يظهر ان جل مطالبه مقتبس من المنازل غير انه يخالفه في الترتيب و الاستشهاد بالايات المستشهد بها مما يدل على انه ليس ترجمة للمنازل ، بل هو رسالة مستقلة . و هناك تقريرات للشيخ باسم (علل المقامات) تشبه المنازل على اختلاف سياقهما ايضا .
و اما الذين اعتنوا بشرح هذا الكتاب فهم عدة من المعروفين :
1- سديد الدين عبد المعطي . و هو اقدم شارح للكتاب و قد الف شرحه في اوائل القرن السابع .
2- سليمان بن علي التلمساني المتوفى سنة 690 .
3- احمد بن ابراهيم الواسطي المتوفى سنة 711 و سماه تنزل المسافرين .
4- عبد الغني بن عبد الخليل التلمساني .
5- شمس الدين التستري في اوائل القرن الثامن .
6- محمود بن محمد الدركزيني المتوفى سنة 743.
7- شمس الدين محمد بن ابي بكر المعروف بابن القيم الجوزية المتوفى سنة 751 .
و اعتمد ابن القيم في شرح المتن على ما قاله التلمساني – عموما – حتى انه يمكن ان نقول : ان وجود شرح التلمساني ساعد ابن القيم كثيرا في فهم العبارات المغلقة . و لكن بالرغم من ذلك فابن القيم هاجم التلمساني و سماه الملحد و ايضا ( اشدهم الحادا ) !.
و ابن القيم لم يشر الى مقصوده الاصلي و هو شرح كتاب الانصاري ؛ بل اظهر انه بشأن تأليف مستقل يشرح فيه :
(( مدارج السالكين بين منازل اياك نعبد و اياك نستعين )) و تعرض فيه لمطالب منازل السائرين نقدا و توضيحا.
و لان المؤلف صوفي المذهب صعب على ابن القيم ان يوجه اقواله و يوافقها مع اعتقاده بالشكل المطلوب فاضطر في بعض الاحيان ان يصرح بالاسف على بعض اقوال الانصاري . فكثرت عندنا عبارات مثل :
(( ليته – قدس روحه – لم يقل ))
(( و هذا منه كالقذى في العين و الشجى في الحلق))
و قوله : (( و قد خبط صاحب المنازل في هذا الموضع ، و جاء بما يرغب عنه الكمل من السادات السالكين و الواصلين الى الله .. ))
و قوله : (( و لعمر الله لقد كان في غنية عن هذا الباب و عن هذه التسمية و لقد افسد الكتاب بذلك ! ))
و قوله : (( شيخ الاسلام حبيبنا و لكن الحق احب الينا منه ، و كان شيخ الاسلام ابن تيمية يقول : عمله خير من علمه .. فمعاذ الله ، ثم معاذ الله من هذه التسمية و معاذ الله من الرضى بها و الاقرار عليها و الذب عنها و الانتصار لها .. )).
وباعتقادي ان المسألة الاصلية التي تنشعب عنها سائر الخلافات بين ابن القيم و الانصاري هي مسألة وحدة الوجود . و الخلاصة ان كتاب ابن القيم عبارة عن تهذيب لكتاب منازل السائرين لكي يتوافق مع مذهب السنة و السلف بعيدا عن اعتقادات الصوفية .
8- كمال الدين عبدالرزاق القاساني.
و القاساني هذا هناك من عده من الشيعة و هناك من قال بأنه ليس من الشيعة لما يوجد في كلماته من مديح الخلفاء و تعظيمهم . و لكن من قال بأنه شيعي اقرب للصواب لان كون القاساني مدح الخلفاء لا يمنع من كونه كان يقول ذلك تقية .
ثم ان اراء القاساني و عقائده مثل وحدة الوجود و مسألة علمه تعالى و احاطته القيومية و نفي الجبر و التفويض و امثالها لا تتمشى ابدا مع كلام اشعري او معتزلي . و خذ قوله : (( مقدم القوم و الباب الاعظم لمدينة العلم و ساقيهم من مشرب الكوثر الذي خص به نبينا محمد صلوات الله عليه و اله و سلم ، علي بن ابي طالب . )) و هذا عين قول الشيعة ! ..
و قد شرح هذا الكتاب بعد القاساني اخرون و لكن لم تصل شروحهم الى حد القبول عند الطالبين كما حصل لشرح القاساني .
3- منهج الكتاب:-
ذكرنا ان منازل السائرين اشهر كتاب في ذكر منازل النفس على ترتيت صناعي و اسلوب تعليمي . و يرجع الشيخ سبب تأليفه للكتاب الى انه راى ان تصانيف الذين صنفوا في هذا المجال قبله غنية كافية ، فمنهم من اشار الى الاصول و لم يف بالتفصيل و منهم من جمع الحكايات و لم يلخصها تلخيصا و لم يخصص النكتة تخصيصا ، و منهم من لم يميز بين مقامات الخاصة و ضرورات العامة ، و منهم من عد شطح المغلوب مقاما و جعل بوح الواجد و رمز المتمكن شيئا عاما و اكثرهم لم ينطق عن الدرجات .. ثم يضيف الى ذلك سبب اخر و هو ان جماعة من الراغبين في الوقوف على منازل السائرين الى الحق من الفقراء من اهل هراة و الغرباء سألوه ان يبين لهم في معرفتها بيانا يكون على معالمها عنوانا ، فأجابهم بعد ان استخار الله .
و صارت جودة تأليف الكتاب الى جانب حسن قريحة المؤلف و اشتهاره و اعتباره و تضلعه في العلوم المختلفة الاسلامية سببا في انتشار الكتاب ، و صيرورته مرجعا دراسيا يعتني به المحققون و الشارحون و يعكف على قراءته المتعلمون ، و ينسج على منواله المؤلفون . و لم يصل مؤلف في هذا الفن اليه من حيث الصيت و الاشتهار ، رغم كثرة ما كتب بعده على منواله من المؤلفات و ما صنفه على منهاجه كبار العلماء و العرفاء .
و من امثلة هذه الكتب :
مشارب الارواح لروزبهان البقلي الشيرازي .
مصباح الهداية لعز الدين الكاشاني.
و قد رتب الشيخ مقامات السائرين في عشرة – هي الاصول و الامهات – تبدء بالبدايات و تنتهي بالنهايات و ما بينهما ثمان مقامات متوسطات . ثم قسم كل مقام الى عشرة ابواب فصارت الابواب مائة . و رتب كل باب على ثلاث درجات :
1- درجة العامة .
2- درجة السالك .
3- درجة المحقق .
حسنا ما هو المنزل و ما هو المقام ؟!
قالوا في كتاب اصطلاحات الصوفية : (( المقام هو استيفاء حقوق المراسم ، فإن لم يستوف حقوق ما فيه من المنازل لم يصح له الترقي الى ما فوقه … و ليس المراد من هذا الاستيفاء انه لم يبق عليه بقية من درجات المقام السافل حتى يمكن له الترقي الى المقام العالي ، فإن اكثر بقايا السافل و درجاته الرفيعة انما يستدرك في العالي ؛ بل المراد تمكنه على المقام بالتثبت فيه .. ))
و قال صاحب اللمع : (( فإن قيل ما معنى المقامات ؟ يقال : معناه مقام العبد بين يدي الله عز و جل فيما يقام فيه من العبادات و المجاهدات و الرياضات و الانقطاع الى الله عز و جل ..))
و يقول القشيري في رسالته : (( و المقام ما يتحقق به العبد بمنازلته من الاداب مما يتوصل اليه بنوع منن التصرف و يتحقق به بضرب تطلب و مقاساة ، فمقام كل احد: موضع اقامته عند ذلك ، و ما هو مشتغل بالرياضة له .. ))
و على ذلك يظهر لنا ان الفرق بين المقام و المنزل بالاعتبار : فيقال (( منزل )) نظرا الى سلوك السالك و انه في حال السفر ؛ و مقام نظرا الى مكثه فيه حتى يستوفي حقه .
و قد صرح الشيخ بأن الترتيب المذكور في هذا الكتاب ليس الطريق الوحيد الذي لا بديل له ، فقال : (( ان السائرين في هذه المقامات على اختلاف عظيم مفظع ، لا يجمعهم ترتيب قاطع ، و لا يقفهم منتهى جامع )).
و يرجع ذلك لاختلاف استعدادهم المفضي الى اختلاف سلوكهم ، فإن المحبوب المراد يتخطف بالجذب قبل السلوك فتكون نهاياته قبل بداياته ، و المحب المريد بالعكس .
فالترتيب المذكور في الكتاب حال المحب المتوسط في درجات الاستعداد ، التام بحسب الفطرة ، الممنو بالموانع بحسب النشأة . ختام الكلام في محتوى الكتاب :
كما ذكرنا ان منازل السائرين اشهر كتاب في ذكر منازل النفس على ترتيت صناعي و اسلوب تعليمي. فهو يأتي على عشرة اقسام هي :
1- قسم البدايات : اليقظة ، التوبة ، المحاسبة ، الانابة ، التفكر …
2- قسم الابواب : الحزن ، الخوف ، الاشفاق ، الخشوع ، الاخبات …
3- قسم المعاملات : الرعاية ، المراقبة ، الحرمة ، الاخلاص ، التهذيب ..
4- قسم الاخلاق : الصبر ، الرضا ، الشكر ، الحياء ، الصدق ….
5- قسم الاصول :القصد ، العزم ، الارادة ، الادب ….
6- قسم الاودية: الاحسان ، العلم ، الحكمة ، البصيرة ، الفراسة …
7- قسم الاحوال :المحبة ، الغيرة ، الشوق ، القلق ….
8- قسم الولايات : اللحظ ، الوقت ، الصفاء ……
9- قسم الحقائق : المكاشفة ، المشاهدة ، المعاينة ….
10- قسم النهايات : المعرفة ، الفناء ، البقاء ، التحقيق …..
و اما حصر الشيخ لها في عشرة و ارتباط بعضها ببعض على الترتيب المذكور : فلأن سير الانسان الى الحق انما هو بالباطن و ان كان مع استعانة بالظاهر لصعود الهيئات البدنية الى حيز النفس و القلب و هبوط الهيئات النفسانية و القلبية الى الظاهر للعلاقة بينهما – و مراتب غيوب الباطن بحسب الوجود ست : غيب الجن الذي هو غيب القوى ، و غيب النفس و غيب القلب و غيب العقل و غيب الروح و غيب الغيوب الذي هو غيب الذات الاحدية .
و بحسب السير و الترقي يحصل للنفس مرتبتان دون مقام القلب :
فإنها قبل التوجه الى الحق امارة ثم تصير لوامة ثم تصير مطمئنة . و للقلب مرتبة فوق مقام العقل و دون مقام الروح تسمى السر و هو عند ترقيه الى مقام الروح في التجرد و الصفا . و للروح مرتبة تسمى الخفي و هو عند ترقيه الى مقام الوحدة . فيكون له في الغيب عشر مراتب و له في كل مرتبة قسم من الاقسام المذكورة يحتوي على عشرة مقامات هي امهات المقامات كلها .
و لو اردنا التكلم عن كل تلك المقامات و لو باختصار لطال بنا الكلام فأكتفي بوضع نموذج من تلك المقامات و هو اول مقام من البدايات ( اليقظة) و بذلك يعرف القراء طريقة الشيخ .
فنرى الشيخ يفتتح الكلام عن هذا المقام بآية كما يفعل مع كل مقام ..:
(( قل انما اعظكم بواحدة ان تقوموا لله ))
ثم يعرف لنا القومة تعريفا بليغا جامعا فيقول :
القومة لله هي اليقظة من سنة الغفلة و النهوض عن ورطة الفترة . ثم يستطرد ليقول انها اول ما يستنير قلب العبد بالحيوة لرؤية نور التنبيه . ثم يقول ان اليقظة ثلاثة اشياء :
1- لحظ القلب الى النعمة على الاياس من عدها و الوقوف على حدها . و التفرغ الى معرفة المنة بها . و العلم بالتقصير في حقها .
2- مطالعة الجناية و الوقوف على الخطر فيها و التشمر لتداركها و التخلص من رقها و طلب النجاة بتمحيصها .
3- الانتباه لمعرفة الزيادة و النقصان في الايام و التنصل عن تضييعها و النظر الى الضن بها ليتدارك فايتها و يعمر باقيها .
ثم يأتي ليعلمنا كيف تصفو تلك الاشياء الثلاثة فيقول :
فأما معرفة النعمة تصفو بثلاثة اشياء : بنور العقل و شيم برق المنة و الاعتبار باهل البلاء .
و اما مطالعة الجناية فإنها تصح بثلاثة اشياء : بتعظيم الحق و معرفة النفس و تصديق الوعيد .
و اما معرفة الزيادة و النقصان في الايام فإنها تستقيم بثلاثة اشياء : بسماع العلم و اجابة دواعي الحرمة و صحبة السالكين .
و يختم الباب بكلام لله دره ما ابلغه : (( و ملاك ذلك كله خلع العادات )).
لان النفس تعودت بالبطالة و الركون الشهوات و اللذات بمقتضى نشأتها فيجب عند تيقظها ان تخلعها بالتزام العزائم و اجتناب الرخص فإنها لوازم النوم و الغفلة و موجبات الانتكاس و التسفل . فما لم تخلعها عن نفسها بتعود اضدادها لا يمكنها السير و الترقي .
و نختم فنقول صارت جودة تاليف الكتاب الى جانب حسن قريحة المؤلف – ينظم باللغتين الفارسية و العربية – و اشتهاره و اعتباره و تضلعه في العلوم الاسلامية المختلفة سببا في انتشار الكتاب و صيرورته مرجعا دراسيا يعتني به المحققون و الشارحون و يعكف على قراءته المتعلمون و ينسج على منواله المؤلفون و لم يصل مؤلف في هذا الفن اليه من حيث الصيت و الاشتهار رغم كثرة ما كتب في هذا المجال على منواله من المؤلفات و ما صنفه على منهاجه كبار العلماء و العرفاء .
من تلك الكتب : مشرب الارواح لروزبهان البقلي الشيرازي ، و مصباح الهداية لعز الدين الكاشاني ، و قسم من عوارف المعارف للسهروردي
1- المؤلف في سطور :
قال الذهبي في تذكرة الحفاظ : (( ابو اسماعيل عبدالله بن محمد بن علي بن محمد بن احمد بن علي بن جعفر بن منصور بن مت الانصاري الهروي ، من ذرية ابي ايوب الانصاري . ولد سنة ست و تسعين و ثلاثمائة )) .
تربى الانصاري منذ صغره على طلب العلم فدرس عند يحيى بن عمار الشيباني و كان هذا الاخير ممن يحاولون ان يوفقوا بين علوم الشريعة و العلوم الكشفية فلذلك تأثر شيخنا بأستاذه . هذا بالاضافة الى تألقه في حفظ القران الكريم و الاشعار العربية بفضل ذاكرته القوية و قال الشعر و هو ابن 9 سنوات.
و الغريب انه على الرغم من ان اساتذته كانوا شافعيين و لكنه اختار المذهب الحنبلي . سافر الى نيشابور ثم الى طوس و الى بسطام لطلب الحديث . و في سنة 423سافر لاداء الحج و توقف عند بغداد ليحضر درس ابو محمد الخلال البغدادي . و في طريق العودة زار الصوفي المعروف ابو الحسن الخرقاني و هنا تبلورت نزعته الصوفية التي غرسها من قبل والده .
ومن اساتذته في التصوف ايضا الصوفي ابوسعيد ابو الخير. و بعد هذه الرحلات عاد الى موطنه ليشتغل بالتدريس و تربية المريدين . هذا و يجب التنويه بأن الشيخ كان معاديا لعلم الكلام بشكل مفرط و قد كتب في ذم هذا العلم و رد على الفقيه الشافعي آنذاك و الذي كان متكلما . و يرجع سبب عداء الشيخ الشديد لعلم الكلام كونه حنبلي المذهب و الحنابلة معروفون بعدائهم لعلم الكلام .
له القاب كثيرة منها : شيخ الاسلام ، شيخ السالكين ، العجوز الهروي .
كان بارعا في الحديث و التفسير و اللغة و التصوف ، مقبولا عند العامة و الخاصة ، و لذلك كان محسود كثيرين ، و قد سعوا بدمه مرارا – على ما ينقله الذهبي – و لم يتمكنوا ، بل صار ذلك سبب اقبال الناس اليه ،و لكنه نفي من مسقط راسه عدة مرات.
و نقل عن ابي طاهر قوله : (( و سمعته بهراة : عرضت على السيف خمس مرات لا يقال لي ارجع عن مذهبك ! ، و لكن يقال لي : اسكت عمن خالفك . فأقول لا اسكت . و سمعته يقول : احفظ اثني عشر الف حديث ، اسردها سردا )).
يقول الذهبي في تذكرته : (( قال ابو سعد السمعاني : كان مظهرا للسنة ، داعيا اليها ، محرضا عليها ، و كان مكتفيا بما يباسط به المريدين ، ما كان يأخذ من الظلمة شيئا و ما كان يتعدى اطلاق ما ورد في الظواهر من الكتاب و السنة ، معتقدا ما صح ، و غير مصرح بما يقتضيه تشبيه . و قال من لم ير مجلسي و تذكيري فطعن فيّ ، فهو مني في حل ! )) .
قال ابو نصر الفامي : توفي ابو اسماعيل في ذي الحجة سنة احدى و ثمانين و اربعمائة ، و قد جاوز اربعا و ثمانين سنة ، و كان قد فقد بصره قبل وفاته.
و هذا و للشيخ العديد من المؤلفات منها :
تفسيرکشفُ الاَسرار و عدة الابرار
انس المريد
انوار التحقيق
تفسير آيه الخلق
ذم الکلام
شمس المجالس
منازل السائرين الی الحق
ديوان شعر
هذا و احببت ان اذكر في ختام كلامنا عن المؤلف انه لم يكن يقيم وزنا لابي موسى الاشعري ! حتى قيل انه كفره.
2- منزلة الكتاب و شراحه :-
منازل السائرين اشهر كتاب في ذكر منازل النفس على ترتيب صناعي و اسلوب تعليمي ، و للانصاري رسائل اخرى بالفارسية على سياقه ، و اكملها و اقربها الى المنازل (صد ميدان ) و يظهر ان جل مطالبه مقتبس من المنازل غير انه يخالفه في الترتيب و الاستشهاد بالايات المستشهد بها مما يدل على انه ليس ترجمة للمنازل ، بل هو رسالة مستقلة . و هناك تقريرات للشيخ باسم (علل المقامات) تشبه المنازل على اختلاف سياقهما ايضا .
و اما الذين اعتنوا بشرح هذا الكتاب فهم عدة من المعروفين :
1- سديد الدين عبد المعطي . و هو اقدم شارح للكتاب و قد الف شرحه في اوائل القرن السابع .
2- سليمان بن علي التلمساني المتوفى سنة 690 .
3- احمد بن ابراهيم الواسطي المتوفى سنة 711 و سماه تنزل المسافرين .
4- عبد الغني بن عبد الخليل التلمساني .
5- شمس الدين التستري في اوائل القرن الثامن .
6- محمود بن محمد الدركزيني المتوفى سنة 743.
7- شمس الدين محمد بن ابي بكر المعروف بابن القيم الجوزية المتوفى سنة 751 .
و اعتمد ابن القيم في شرح المتن على ما قاله التلمساني – عموما – حتى انه يمكن ان نقول : ان وجود شرح التلمساني ساعد ابن القيم كثيرا في فهم العبارات المغلقة . و لكن بالرغم من ذلك فابن القيم هاجم التلمساني و سماه الملحد و ايضا ( اشدهم الحادا ) !.
و ابن القيم لم يشر الى مقصوده الاصلي و هو شرح كتاب الانصاري ؛ بل اظهر انه بشأن تأليف مستقل يشرح فيه :
(( مدارج السالكين بين منازل اياك نعبد و اياك نستعين )) و تعرض فيه لمطالب منازل السائرين نقدا و توضيحا.
و لان المؤلف صوفي المذهب صعب على ابن القيم ان يوجه اقواله و يوافقها مع اعتقاده بالشكل المطلوب فاضطر في بعض الاحيان ان يصرح بالاسف على بعض اقوال الانصاري . فكثرت عندنا عبارات مثل :
(( ليته – قدس روحه – لم يقل ))
(( و هذا منه كالقذى في العين و الشجى في الحلق))
و قوله : (( و قد خبط صاحب المنازل في هذا الموضع ، و جاء بما يرغب عنه الكمل من السادات السالكين و الواصلين الى الله .. ))
و قوله : (( و لعمر الله لقد كان في غنية عن هذا الباب و عن هذه التسمية و لقد افسد الكتاب بذلك ! ))
و قوله : (( شيخ الاسلام حبيبنا و لكن الحق احب الينا منه ، و كان شيخ الاسلام ابن تيمية يقول : عمله خير من علمه .. فمعاذ الله ، ثم معاذ الله من هذه التسمية و معاذ الله من الرضى بها و الاقرار عليها و الذب عنها و الانتصار لها .. )).
وباعتقادي ان المسألة الاصلية التي تنشعب عنها سائر الخلافات بين ابن القيم و الانصاري هي مسألة وحدة الوجود . و الخلاصة ان كتاب ابن القيم عبارة عن تهذيب لكتاب منازل السائرين لكي يتوافق مع مذهب السنة و السلف بعيدا عن اعتقادات الصوفية .
8- كمال الدين عبدالرزاق القاساني.
و القاساني هذا هناك من عده من الشيعة و هناك من قال بأنه ليس من الشيعة لما يوجد في كلماته من مديح الخلفاء و تعظيمهم . و لكن من قال بأنه شيعي اقرب للصواب لان كون القاساني مدح الخلفاء لا يمنع من كونه كان يقول ذلك تقية .
ثم ان اراء القاساني و عقائده مثل وحدة الوجود و مسألة علمه تعالى و احاطته القيومية و نفي الجبر و التفويض و امثالها لا تتمشى ابدا مع كلام اشعري او معتزلي . و خذ قوله : (( مقدم القوم و الباب الاعظم لمدينة العلم و ساقيهم من مشرب الكوثر الذي خص به نبينا محمد صلوات الله عليه و اله و سلم ، علي بن ابي طالب . )) و هذا عين قول الشيعة ! ..
و قد شرح هذا الكتاب بعد القاساني اخرون و لكن لم تصل شروحهم الى حد القبول عند الطالبين كما حصل لشرح القاساني .
3- منهج الكتاب:-
ذكرنا ان منازل السائرين اشهر كتاب في ذكر منازل النفس على ترتيت صناعي و اسلوب تعليمي . و يرجع الشيخ سبب تأليفه للكتاب الى انه راى ان تصانيف الذين صنفوا في هذا المجال قبله غنية كافية ، فمنهم من اشار الى الاصول و لم يف بالتفصيل و منهم من جمع الحكايات و لم يلخصها تلخيصا و لم يخصص النكتة تخصيصا ، و منهم من لم يميز بين مقامات الخاصة و ضرورات العامة ، و منهم من عد شطح المغلوب مقاما و جعل بوح الواجد و رمز المتمكن شيئا عاما و اكثرهم لم ينطق عن الدرجات .. ثم يضيف الى ذلك سبب اخر و هو ان جماعة من الراغبين في الوقوف على منازل السائرين الى الحق من الفقراء من اهل هراة و الغرباء سألوه ان يبين لهم في معرفتها بيانا يكون على معالمها عنوانا ، فأجابهم بعد ان استخار الله .
و صارت جودة تأليف الكتاب الى جانب حسن قريحة المؤلف و اشتهاره و اعتباره و تضلعه في العلوم المختلفة الاسلامية سببا في انتشار الكتاب ، و صيرورته مرجعا دراسيا يعتني به المحققون و الشارحون و يعكف على قراءته المتعلمون ، و ينسج على منواله المؤلفون . و لم يصل مؤلف في هذا الفن اليه من حيث الصيت و الاشتهار ، رغم كثرة ما كتب بعده على منواله من المؤلفات و ما صنفه على منهاجه كبار العلماء و العرفاء .
و من امثلة هذه الكتب :
مشارب الارواح لروزبهان البقلي الشيرازي .
مصباح الهداية لعز الدين الكاشاني.
و قد رتب الشيخ مقامات السائرين في عشرة – هي الاصول و الامهات – تبدء بالبدايات و تنتهي بالنهايات و ما بينهما ثمان مقامات متوسطات . ثم قسم كل مقام الى عشرة ابواب فصارت الابواب مائة . و رتب كل باب على ثلاث درجات :
1- درجة العامة .
2- درجة السالك .
3- درجة المحقق .
حسنا ما هو المنزل و ما هو المقام ؟!
قالوا في كتاب اصطلاحات الصوفية : (( المقام هو استيفاء حقوق المراسم ، فإن لم يستوف حقوق ما فيه من المنازل لم يصح له الترقي الى ما فوقه … و ليس المراد من هذا الاستيفاء انه لم يبق عليه بقية من درجات المقام السافل حتى يمكن له الترقي الى المقام العالي ، فإن اكثر بقايا السافل و درجاته الرفيعة انما يستدرك في العالي ؛ بل المراد تمكنه على المقام بالتثبت فيه .. ))
و قال صاحب اللمع : (( فإن قيل ما معنى المقامات ؟ يقال : معناه مقام العبد بين يدي الله عز و جل فيما يقام فيه من العبادات و المجاهدات و الرياضات و الانقطاع الى الله عز و جل ..))
و يقول القشيري في رسالته : (( و المقام ما يتحقق به العبد بمنازلته من الاداب مما يتوصل اليه بنوع منن التصرف و يتحقق به بضرب تطلب و مقاساة ، فمقام كل احد: موضع اقامته عند ذلك ، و ما هو مشتغل بالرياضة له .. ))
و على ذلك يظهر لنا ان الفرق بين المقام و المنزل بالاعتبار : فيقال (( منزل )) نظرا الى سلوك السالك و انه في حال السفر ؛ و مقام نظرا الى مكثه فيه حتى يستوفي حقه .
و قد صرح الشيخ بأن الترتيب المذكور في هذا الكتاب ليس الطريق الوحيد الذي لا بديل له ، فقال : (( ان السائرين في هذه المقامات على اختلاف عظيم مفظع ، لا يجمعهم ترتيب قاطع ، و لا يقفهم منتهى جامع )).
و يرجع ذلك لاختلاف استعدادهم المفضي الى اختلاف سلوكهم ، فإن المحبوب المراد يتخطف بالجذب قبل السلوك فتكون نهاياته قبل بداياته ، و المحب المريد بالعكس .
فالترتيب المذكور في الكتاب حال المحب المتوسط في درجات الاستعداد ، التام بحسب الفطرة ، الممنو بالموانع بحسب النشأة . ختام الكلام في محتوى الكتاب :
كما ذكرنا ان منازل السائرين اشهر كتاب في ذكر منازل النفس على ترتيت صناعي و اسلوب تعليمي. فهو يأتي على عشرة اقسام هي :
1- قسم البدايات : اليقظة ، التوبة ، المحاسبة ، الانابة ، التفكر …
2- قسم الابواب : الحزن ، الخوف ، الاشفاق ، الخشوع ، الاخبات …
3- قسم المعاملات : الرعاية ، المراقبة ، الحرمة ، الاخلاص ، التهذيب ..
4- قسم الاخلاق : الصبر ، الرضا ، الشكر ، الحياء ، الصدق ….
5- قسم الاصول :القصد ، العزم ، الارادة ، الادب ….
6- قسم الاودية: الاحسان ، العلم ، الحكمة ، البصيرة ، الفراسة …
7- قسم الاحوال :المحبة ، الغيرة ، الشوق ، القلق ….
8- قسم الولايات : اللحظ ، الوقت ، الصفاء ……
9- قسم الحقائق : المكاشفة ، المشاهدة ، المعاينة ….
10- قسم النهايات : المعرفة ، الفناء ، البقاء ، التحقيق …..
و اما حصر الشيخ لها في عشرة و ارتباط بعضها ببعض على الترتيب المذكور : فلأن سير الانسان الى الحق انما هو بالباطن و ان كان مع استعانة بالظاهر لصعود الهيئات البدنية الى حيز النفس و القلب و هبوط الهيئات النفسانية و القلبية الى الظاهر للعلاقة بينهما – و مراتب غيوب الباطن بحسب الوجود ست : غيب الجن الذي هو غيب القوى ، و غيب النفس و غيب القلب و غيب العقل و غيب الروح و غيب الغيوب الذي هو غيب الذات الاحدية .
و بحسب السير و الترقي يحصل للنفس مرتبتان دون مقام القلب :
فإنها قبل التوجه الى الحق امارة ثم تصير لوامة ثم تصير مطمئنة . و للقلب مرتبة فوق مقام العقل و دون مقام الروح تسمى السر و هو عند ترقيه الى مقام الروح في التجرد و الصفا . و للروح مرتبة تسمى الخفي و هو عند ترقيه الى مقام الوحدة . فيكون له في الغيب عشر مراتب و له في كل مرتبة قسم من الاقسام المذكورة يحتوي على عشرة مقامات هي امهات المقامات كلها .
و لو اردنا التكلم عن كل تلك المقامات و لو باختصار لطال بنا الكلام فأكتفي بوضع نموذج من تلك المقامات و هو اول مقام من البدايات ( اليقظة) و بذلك يعرف القراء طريقة الشيخ .
فنرى الشيخ يفتتح الكلام عن هذا المقام بآية كما يفعل مع كل مقام ..:
(( قل انما اعظكم بواحدة ان تقوموا لله ))
ثم يعرف لنا القومة تعريفا بليغا جامعا فيقول :
القومة لله هي اليقظة من سنة الغفلة و النهوض عن ورطة الفترة . ثم يستطرد ليقول انها اول ما يستنير قلب العبد بالحيوة لرؤية نور التنبيه . ثم يقول ان اليقظة ثلاثة اشياء :
1- لحظ القلب الى النعمة على الاياس من عدها و الوقوف على حدها . و التفرغ الى معرفة المنة بها . و العلم بالتقصير في حقها .
2- مطالعة الجناية و الوقوف على الخطر فيها و التشمر لتداركها و التخلص من رقها و طلب النجاة بتمحيصها .
3- الانتباه لمعرفة الزيادة و النقصان في الايام و التنصل عن تضييعها و النظر الى الضن بها ليتدارك فايتها و يعمر باقيها .
ثم يأتي ليعلمنا كيف تصفو تلك الاشياء الثلاثة فيقول :
فأما معرفة النعمة تصفو بثلاثة اشياء : بنور العقل و شيم برق المنة و الاعتبار باهل البلاء .
و اما مطالعة الجناية فإنها تصح بثلاثة اشياء : بتعظيم الحق و معرفة النفس و تصديق الوعيد .
و اما معرفة الزيادة و النقصان في الايام فإنها تستقيم بثلاثة اشياء : بسماع العلم و اجابة دواعي الحرمة و صحبة السالكين .
و يختم الباب بكلام لله دره ما ابلغه : (( و ملاك ذلك كله خلع العادات )).
لان النفس تعودت بالبطالة و الركون الشهوات و اللذات بمقتضى نشأتها فيجب عند تيقظها ان تخلعها بالتزام العزائم و اجتناب الرخص فإنها لوازم النوم و الغفلة و موجبات الانتكاس و التسفل . فما لم تخلعها عن نفسها بتعود اضدادها لا يمكنها السير و الترقي .
و نختم فنقول صارت جودة تاليف الكتاب الى جانب حسن قريحة المؤلف – ينظم باللغتين الفارسية و العربية – و اشتهاره و اعتباره و تضلعه في العلوم الاسلامية المختلفة سببا في انتشار الكتاب و صيرورته مرجعا دراسيا يعتني به المحققون و الشارحون و يعكف على قراءته المتعلمون و ينسج على منواله المؤلفون و لم يصل مؤلف في هذا الفن اليه من حيث الصيت و الاشتهار رغم كثرة ما كتب في هذا المجال على منواله من المؤلفات و ما صنفه على منهاجه كبار العلماء و العرفاء .
من تلك الكتب : مشرب الارواح لروزبهان البقلي الشيرازي ، و مصباح الهداية لعز الدين الكاشاني ، و قسم من عوارف المعارف للسهروردي