تفسير جريمة
بسم الله الرحمن الرحيم
أخيرا قرأت الرواية الشهيرة "تفسير جريمة" للكاتب و المحامي الامريكي "جد روبن فلد" الواقعة في حوالي 530 صفحة . قبل الاسترسال يجب ان نلخص القصة فنقول ان احداث الرواية تقع في سنة 1909 م اذ في تلك السنة زار سيجموند فرويد الولايات المتحدة ليلقي سلسلة من المحاضرات ترويجا لطريقته المبتكرة في التحليل النفسي . يصل فرويد الى نيويورك برفقة "كارل يونغ" و "س فرانسيزي" و في استقبالهم المحلل النفسي الامريكي "ابراهام برل" و زميله اليافع"ستراذام يونغر". طبعا هؤلاء كلهم شخصيات حقيقية و معروفة باستثناء شخصية يونغر فهي وهمية و لكنه هو بطل الرواية و القصة تُحكى على لسانه . في هذه الفترة تقع جريمة قتل شابة في احد اشهر و افخم الفنادق في نيويورك ثم في نفس الفترة تقع جريمة اخرى و لكن هذه المرة عثروا على الفتاة قبيل ان تكتمل الجريمة . من هنا تنطلق القصة في اتجاهات مختلفة فمن جهة نتابع سير الاحداث عند فرويد و رفاقه و كيف يتطور الخلاف مع كارل يونغ و ينشق عن مدرسة فرويد و من جهة اخرى نتابع فرويد و يونغر في محاولة علاج الفتاة الثانية و من جهة ثالثة نتابع المحقق لتل مور و رئيس التحقيق هوجل و هما يحاولان تقصي الادلة و معرفة المجرم . هذه برأيي الخطوط الثلاثة الرئيسية و الا فهناك تشعبات اخرى للقصة على اهميتها الا انها ثانوية .
واقعا استطاع روبن فلد ان يخلق اثرا فنيا معقدا جدا و لكن لم يعجبني اسلوب التنقل بين محاور القصة في نفس الفصل هذا بخلاف مثلا موراكامي الذي يسير باتجاهين فقط و لكن لكل اتجاه فصله الكامل و يتنقل موراكامي بين الاتجاهين الى ان يلتقيان في الفصول النهائية . في رواية تفسير جريمة لا يوجد مثل هذا الترتيب و القصة على كثرة و اختلاف اتجاهاتها الا ان الكاتب لم يخصص فصولا لكل اتجاه بل في نفس الفصل ينتقل من اتجاه لاخر بدون اشعار مسبق .
لنعد الى الوراء قليلا و نتكلم عن عنوان الرواية فاختيار كلمة تفسير اشارة واضحة الى كتاب فرويد الاشهر "تفسير الاحلام" فالكاتب هنا يفسر الجريمة و يحللها من جانبين الاول جانب التحري المعتاد و هذا ما يقوم به هوجل و لتل مور و لكن من جانب آخر يحلل الجريمة تحليلا نفسيا على طريقة فرويد و هنا يكمن ابتكار الكاتب. تفسير الاحلام و الرمزية موجودة في هذه الرواية بشكل مكثف الا ان احد المواقف لفت نظري اذ في مشهد من المشاهد يحلل فرويد بعض الحضور بناءً على تصرفاتهم اللارادية و من ذلك انه استنتج ان صاحب الحفلة قد ابهره جمال "كلارا" و انه منغمس في التفكير فيها و ذلك بدلالة انه يمسك بالسكين الخطأ على المأدبة ! هل تذكركم هذه القصة بشيء ؟ نعم قصة صويحبات يوسف عليه السلام .
حقيقة عندما بدأت بقراءة هذه الرواية لم اكن اعرف الكثير عن فرويد و صاحبه يونغ و كان يزعجني انني لم اكن اعرف كيف اميز بين الحقيقة و الخيال في هذه القصة فأنا اعلم مثلا ان فرويد و يونغ اختلفا اخيرا فهذا الامر اشهر من ان يجهل و لكن تفاصيل الزيارة و تفاصيل الحوارات لا يمكن تمييز الحقيقي من الخيالي منها الا بمعرفة مسبقة . هذا و لكن الكاتب في نهاية الرواية خصص قسما مختصرا يميز فيه الامور الخيالية عن الامور الواقعية و ما اثار عجبي ان الكاتب على الرغم من دقته في تقصي حقائق تلك الحقبة الزمنية الا انه و باعترافه تصرف في تقديم و تأخير بعض الاحداث بل غيّر اماكن بعض المعالم . اعني ان هذا التصرف و ان كان يخدم القصة من ناحية الحبكة الا انه يستلزم نقض الغرض من الابحاث التاريخية الدقيقة التي اجراها الكاتب. على كل حال لا يمكن انكار ابداع الكاتب في هذا الباب و دقته المتناهية في وصف تلك الحقبة الزمنية لدرجة انه وصف نيويورك و اشهر معالمها و تاريخها و ناطحات سحابها و جسورها و حفلاتها الباذخة بشكل جعل من المدينة الشهيرة شخصية حية من شخصيات الرواية .
هذا و لكن الرواية غير خالية من الملاحظات ايضا فلربما اكثر ما يؤخذ على الكاتب النهاية السيئة برأيي و ان كان هناك من مدح هذه النهاية . المشكلة ان تفسير الكاتب للجريمة في النهاية و ان كان مبتكرا الا انه غير واقعي و فيه محاولة واضحة للتظاهر بالذكاء . و قد لاحظت ان الكاتب استرسل كثيرا في وصف تفاصيل جزئية من تلك الحقبة الزمنية كان بالامكان اختصارها لدرجة ان بعض القراء وصف الرواية بأنها كتاب اكاديمي لكثرة الاسترسال في المعلومات التاريخية و ما الى ذلك.
في النهاية لا بأس بالاشارة الى ان الكاتب تأثر بكتاب كثر و لكن يبدو لي ان اكثر من كان لهم تأثير في هذه القصة هم السير كونان دويل و اجاثا كريستي و اف سكوت فيتزجرالد. و لكن السؤال الاهم ، هل وفق الكاتب في اثارة فضولي لقراءة المزيد عن فرويد و مدرسته او قراءة المزيد عن كارل يونغ و مدرسته ؟ نعم ، بالنسبة لي قد نجح في اثارة فضولي الى حد ما و لكن ليس بالنسبة لفرويد تحديدا و ان كانت قراءة اعمال فرويد ضرورية لفهم اعمال من جاء بعده مثل "لاكان" الا انني سأقرا لابنة فرويد آنا اولا و ليونغ ربما لاحقا. حقيقة النفس البشرية عالم واسع و شيق و الخوض في اعماقه تجربة لن تخلو من الفائدة .
دمتم في الرضا ،
أخيرا قرأت الرواية الشهيرة "تفسير جريمة" للكاتب و المحامي الامريكي "جد روبن فلد" الواقعة في حوالي 530 صفحة . قبل الاسترسال يجب ان نلخص القصة فنقول ان احداث الرواية تقع في سنة 1909 م اذ في تلك السنة زار سيجموند فرويد الولايات المتحدة ليلقي سلسلة من المحاضرات ترويجا لطريقته المبتكرة في التحليل النفسي . يصل فرويد الى نيويورك برفقة "كارل يونغ" و "س فرانسيزي" و في استقبالهم المحلل النفسي الامريكي "ابراهام برل" و زميله اليافع"ستراذام يونغر". طبعا هؤلاء كلهم شخصيات حقيقية و معروفة باستثناء شخصية يونغر فهي وهمية و لكنه هو بطل الرواية و القصة تُحكى على لسانه . في هذه الفترة تقع جريمة قتل شابة في احد اشهر و افخم الفنادق في نيويورك ثم في نفس الفترة تقع جريمة اخرى و لكن هذه المرة عثروا على الفتاة قبيل ان تكتمل الجريمة . من هنا تنطلق القصة في اتجاهات مختلفة فمن جهة نتابع سير الاحداث عند فرويد و رفاقه و كيف يتطور الخلاف مع كارل يونغ و ينشق عن مدرسة فرويد و من جهة اخرى نتابع فرويد و يونغر في محاولة علاج الفتاة الثانية و من جهة ثالثة نتابع المحقق لتل مور و رئيس التحقيق هوجل و هما يحاولان تقصي الادلة و معرفة المجرم . هذه برأيي الخطوط الثلاثة الرئيسية و الا فهناك تشعبات اخرى للقصة على اهميتها الا انها ثانوية .
واقعا استطاع روبن فلد ان يخلق اثرا فنيا معقدا جدا و لكن لم يعجبني اسلوب التنقل بين محاور القصة في نفس الفصل هذا بخلاف مثلا موراكامي الذي يسير باتجاهين فقط و لكن لكل اتجاه فصله الكامل و يتنقل موراكامي بين الاتجاهين الى ان يلتقيان في الفصول النهائية . في رواية تفسير جريمة لا يوجد مثل هذا الترتيب و القصة على كثرة و اختلاف اتجاهاتها الا ان الكاتب لم يخصص فصولا لكل اتجاه بل في نفس الفصل ينتقل من اتجاه لاخر بدون اشعار مسبق .
لنعد الى الوراء قليلا و نتكلم عن عنوان الرواية فاختيار كلمة تفسير اشارة واضحة الى كتاب فرويد الاشهر "تفسير الاحلام" فالكاتب هنا يفسر الجريمة و يحللها من جانبين الاول جانب التحري المعتاد و هذا ما يقوم به هوجل و لتل مور و لكن من جانب آخر يحلل الجريمة تحليلا نفسيا على طريقة فرويد و هنا يكمن ابتكار الكاتب. تفسير الاحلام و الرمزية موجودة في هذه الرواية بشكل مكثف الا ان احد المواقف لفت نظري اذ في مشهد من المشاهد يحلل فرويد بعض الحضور بناءً على تصرفاتهم اللارادية و من ذلك انه استنتج ان صاحب الحفلة قد ابهره جمال "كلارا" و انه منغمس في التفكير فيها و ذلك بدلالة انه يمسك بالسكين الخطأ على المأدبة ! هل تذكركم هذه القصة بشيء ؟ نعم قصة صويحبات يوسف عليه السلام .
حقيقة عندما بدأت بقراءة هذه الرواية لم اكن اعرف الكثير عن فرويد و صاحبه يونغ و كان يزعجني انني لم اكن اعرف كيف اميز بين الحقيقة و الخيال في هذه القصة فأنا اعلم مثلا ان فرويد و يونغ اختلفا اخيرا فهذا الامر اشهر من ان يجهل و لكن تفاصيل الزيارة و تفاصيل الحوارات لا يمكن تمييز الحقيقي من الخيالي منها الا بمعرفة مسبقة . هذا و لكن الكاتب في نهاية الرواية خصص قسما مختصرا يميز فيه الامور الخيالية عن الامور الواقعية و ما اثار عجبي ان الكاتب على الرغم من دقته في تقصي حقائق تلك الحقبة الزمنية الا انه و باعترافه تصرف في تقديم و تأخير بعض الاحداث بل غيّر اماكن بعض المعالم . اعني ان هذا التصرف و ان كان يخدم القصة من ناحية الحبكة الا انه يستلزم نقض الغرض من الابحاث التاريخية الدقيقة التي اجراها الكاتب. على كل حال لا يمكن انكار ابداع الكاتب في هذا الباب و دقته المتناهية في وصف تلك الحقبة الزمنية لدرجة انه وصف نيويورك و اشهر معالمها و تاريخها و ناطحات سحابها و جسورها و حفلاتها الباذخة بشكل جعل من المدينة الشهيرة شخصية حية من شخصيات الرواية .
هذا و لكن الرواية غير خالية من الملاحظات ايضا فلربما اكثر ما يؤخذ على الكاتب النهاية السيئة برأيي و ان كان هناك من مدح هذه النهاية . المشكلة ان تفسير الكاتب للجريمة في النهاية و ان كان مبتكرا الا انه غير واقعي و فيه محاولة واضحة للتظاهر بالذكاء . و قد لاحظت ان الكاتب استرسل كثيرا في وصف تفاصيل جزئية من تلك الحقبة الزمنية كان بالامكان اختصارها لدرجة ان بعض القراء وصف الرواية بأنها كتاب اكاديمي لكثرة الاسترسال في المعلومات التاريخية و ما الى ذلك.
في النهاية لا بأس بالاشارة الى ان الكاتب تأثر بكتاب كثر و لكن يبدو لي ان اكثر من كان لهم تأثير في هذه القصة هم السير كونان دويل و اجاثا كريستي و اف سكوت فيتزجرالد. و لكن السؤال الاهم ، هل وفق الكاتب في اثارة فضولي لقراءة المزيد عن فرويد و مدرسته او قراءة المزيد عن كارل يونغ و مدرسته ؟ نعم ، بالنسبة لي قد نجح في اثارة فضولي الى حد ما و لكن ليس بالنسبة لفرويد تحديدا و ان كانت قراءة اعمال فرويد ضرورية لفهم اعمال من جاء بعده مثل "لاكان" الا انني سأقرا لابنة فرويد آنا اولا و ليونغ ربما لاحقا. حقيقة النفس البشرية عالم واسع و شيق و الخوض في اعماقه تجربة لن تخلو من الفائدة .
دمتم في الرضا ،