مع كويلو في عمليه : الخيميائي و الحج
بسم الله الرحمن الرحيم
بعد قراءة "هيبي" النسخة الانجليزية قررت الرجوع الى الوراء و استكشاف بعض اعمال كويلو الاكثر شهرة فبدأت بالخيميائي النسخة العربية لانها موجودة عندي منذ سنوات و من ثم اشتريت نسخة عربية ايضا من رواية الحج - حجم الخط كان انسب من الانجليزية - و لكن يبدو ان العنوان هنا مختلف فقد ترجم الى "حاج كومبوستيلا" . منذ البداية ظهر لي جليا ان الكاتب لم يستطع الفرار من فخ التكرار كما هو ديدن بعض المشاهير من الكتاب في هذا الزمن ، فلو قلنا ان هيبي هي قصة رحلة صوفي نحو الروحانية فإن الخيميائي قصة ملحد نحو الروحانية و كذا الحج قصة مسيحي نحو الروحانية . و يبدو لي ان هذا الثيم يتكرر في الاعمال التي لم اقراها من مثل "بريدا" حيث تحكي قصة امراة نحو الروحانية على ما اطلعت من بعض المواقع. قد يقال ان الاحداث مختلفة في هذه الروايات فأجيب نعم الاحداث مختلفة في تفاصيلها و لكن مكررة في اهدافها و ايضا في الصعوبات التي يواجهها ابطالها و طرق التغلب عليها فالتجارب الروحية واحدة و ان كانت ظاهريا مختلفة بحسب اختلاف عادات و تقاليد الزمان و المكان . لنبدأ بالخيميائي فهذه القصة الاكثر مبيعا كانت مخيبة للآمال فهي فنيا ليست بالمستوى المطلوب اذ القصة و الشخصيات جدا بسيطة بل بدائية اذا كنا نتكلم عن قصة يراد لها ان تكون من افضل ما كتب في التاريخ . مع هذا أدرك سبب الاقبال الكبير على هذه الرواية فهي بمثابة تغليف حديث لمفاهيم روحية غابت عن المجتمع الغربي بإطار بعيد عن اي دين معروف فلا عجب ان يكون الاقبال عليها شديدا . و من هنا نعرف سبب تفوق الخيميائي على غيرها في المبيعات فرواية الحج مثلا بوجهة نظري افضل من الخيميائي فنيا الا انها مثقلة بالطقوس و الاشارات المسيحية و لهذا لن تجد الاقبال المطلوب عليها من قبل القراء الذين لديهم قناعات سلبية تجاه الاديان بشكل عام ، و هكذا رواية هيبي لن تحظى بالقبول العام لانها متأثرة بالطقوس الصوفية و الافكار التحررية للهيبيز . اذاً الميزة الوحيدة للخيميائي هي تجريدها المفاهيم الروحية لتناسب كل الناس من جميع الطوائف و الملل لكن بهذا العمل يبدو لي ان كويلو وقع في فخ ابتذال التجربة الروحية فبدلا من التوجه بالدعاء الى خالق حكيم يتحول التوجه الى الكون، و تصبح التفاؤلية هي المعيار الاساسي للسعادة و النجاح في هذه الحياة بدلا من الجهد الفردي او التدخل الالهي ، الى اخره من الهرطقات التي يقدمها الروحانيون الجدد .
عودة الى الرواية الثانية رواية الحج فهي تحكي قصة حج تمتد حوالي 500 من الكيلومترات ابتداءً من احدى المدن الفرنسية و انتهاءً بضريح مار يعقوب في اسبانيا . و قد قام كويلو بهذه الرحلة في منتصف الثمانينات بحثا عن سيفه الذي اعطته جمعية "الميراث" و فقده اثر فشله في اختباره الاخير . في هذه الرحلة يرافق كويلو مرشدٌ جديد يقوم بتعليمه بعض التمارين الروحية و يساعده في تجاوز الاختبارات الكثيرة في هذه الرحلة الروحانية فيتعلم منه الكثير من الحكمة على مدى مقامات يجب ان يغوص في غمراتها كل سالك و طالب للمعرفة. هذه الرواية بدأت بداية واعدة جدا و لكن مع تقدم الرواية لا نجد الا مزيدا من التمارين التي تصبح مع مكاشفاتها في احيان كثيرة كأنها مأخوذة من كتب تطوير الذات مع مبالغات قد تصل الى حد الابتذال فتصبح الخلطة كلها غريبة عجيبة او كما يقول الاجانب "مامبو جامبو" . و قد قرأت لاحقا ان كويلو من رواد كتابة الروايات التي قد تصنف في احيان كثيرة نوعا من انواع تطوير الذات . ان محاولة كويلو الجمع بين الرواية و بين تطوير الذات و استغلال التجربة الروحية ادى الى مزيج غير متكامل من العناصر الثلاثة انتهى بأن يصفه بعض النقاد بالسطحي . بعبارة اخرى ان اسلوبه سيعجب القارئ من عامة الناس و لكنه ضحى بالعمق الفلسفي و الاحترافية الادبية في سبيل الوصول الى ذلك . هذا و لازلت لا اعرف سببا لهذه النهايات الباردة التي يقدمها كويلو في اعماله الثلاثة " هيبي ، الخيميائي و الحج ".
الان لنتكلم بشكل سريع عن بعض النقاط التي يكررها كويلو في اعماله :
تعدد الطرق : ان من الرسائل التي يحاول كويلو ايصالها الى القارئ مسألة تعدد الطرق و وحدة الهدف بمعنى ان كل الاديان و المذاهب في النهاية توصل الى الله سبحانه و تعالى . بل قد يقال ان حياة كويلو دليل عملي على هذا الامر فهو لا يأبى ان يتتلمذ عند شخص صوفي و لا يأبى ان يرقص هاري كريشنا الهندوسية اضافة الى كونه مسيحيا كما رأينا في رواية الحج . هذا الاسلوب الانتقائي التنقلي واقعا ليس من ابتكارات كويلو بل ان اغلب الهيبيز كانوا يؤمنون بفكرة المزج بين التقنيات المختلفة التي تقدمها الاديان للوصول الى المقصد . هذه الطريقة و ان كانت في بداية الامر عقلائية و مغرية ، فأنت تأخذ افضل ما يقدمه كل دين و تترك ما لا ينفعك الا انها مقدرة للفشل عمليا بل حتى نظريا و يبدو لي ان اغلب من كانوا يدعون الى مثل هذه الطريقة المزجية في النهاية لم يصلوا الى المقصد الاعلى . أما الفشل من الناحية النظرية فلأن الطقوس الدينية لا تؤخذ منفردة بل لها لوازم و توابع و هذه اللوازم تتعارض بين الاديان فمثلا لا يعقل ان يرقص مسلم على نغم هاري كريشنا او ان يحج هندوسي الى الكعبة لان الرقص او الحج ليس مجرد شكل ظاهري و انما له لوازم اعتقادية ستتعارض كما هو واضح في حالة الهندوسي و المسلم . اما من الناحية العملية فعدم الالتزام بطريقة واحدة و التنقل بين طريقة و اخرى انما هو دليل الحيرة و لا يؤدي الا الى مزيد من التشتت و الحال اننا في الرحلة الباطنية نحتاج الى نقطة ثبات. بعبارة اخرى السالك يحتاج الى التخلي اكثر من الاكتساب . فالحاصل ان من يريد الوصول لا يحتاج الى التنقل من مدرسة الى اخرى بل عليه ان يثبت على طريقة واحدة ويعطيها كل ما لديه.
المرشد في الرحلة الروحية : ان كويلو يشدد في رواياته على اهمية المرشد في الرحلة الروحية و هذا صدى لدعوة العرفاء دائما الى عدم سلوك هذا الطريق بدون مرشد . و قد سبق ان تكلمت عن هذه النقطة في مقالة نظر العارف السابعة فقلت " من المعروف ان من يريد ان يتعلم فنا او حرفة او علما يحتاج الى استاذ يعلمه ذلك و هذا شيء بديهي لا يختلف عليه احد الا ان البعض يستثني السلوك و التجربة الروحية فيقول انه لا حاجة الى استاذ فالطريق واضح و بين . و قد يقال انه فعلا بالامكان لاي شخص اذا كان ذكيا و متوقدا ان يتعلم اي فن يريده و الامثلة في التاريخ كثيرة . نقول نعم نظريا يمكن و لا توجد استحالة عقلية هنا و لكن هذا الاستثناء و تبقى القاعدة العامة فمن يريد ان يتعلم شيئا في غالب الامر لا يستطيع الا بالتعلم من استاذ بل انه عقليا يجب عليه اختيار الاستاذ لكي يختصر له المشوار و لكي لا يخاطر فيتعلم خطأ و يورد نفسه و غيره التهلكة في كثير من المجالات ، فلا اعتقد ان الكثير من الناس سيقبلون ان يجري عليهم طبيب عملية جراحية اذا علموا بأنه تعلم بنفسه من خلال الكتب و القراءة بدون ان يتتلمذ و يكون تحت اشراف جامعة و اطباء مهرة. كذلك التجربة الروحية عندما تتطور تحتاج الى مرشد حاذق يعرف خبايا النفس و ملتويات الطريق و الا قد يصل الانسان الى حالات من الانفصال عن الواقع او يضل عن الجادة المستقيمة . و اما عندما يشير بعض الاولياء في مقولات كثيرة الى انه لا حاجة الى معلم في هذا الباب فالكلام من ناحية الاساسيات فعامة الناس لا تعمل بالاساسيات الواضحة المعروفة لكل عامي و يريدون القفز الى مرحلة الكرامة و الاذكار و المكاشفات فالولي هنا يعيد السائل الى الواقع فيقول له انت لم تعمل بما تعلمته فلماذا تريد ان تزيد المعلوم على حساب العمل ؟ الامر اشبه بمن يريد تعلم الرياضيات في مستوى الجامعة عند البروفيسور الفلاني و هو لا يعرف العمليات الاربع و الاساسيات فننصحه فنقول انت الان لا تحتاج الى البروفيسور الفلاني فقط عليك اولا ان تتعلم المستوى الاول و تمارس التمارين حتى يصبح ملكة عندك و تظهر الجد في التعلم حتى نعطيك المستوى الثاني و الثالث الى ان تصبح مؤهلا ان يأتي البروفيسور المتخصص فيدرسك المستويات العليا . هذا حالنا فنحن لم نتعلم و لم نلتزم بألف باء الفقه من خلال سؤال المشايخ و العلماء و نريد ان يأتي مرشد موسى عليه السلام ليأخذ بأيدينا . و قد قالوا اذا أصبح الطالب جاهزا سيأتي الاستاذ ، ففي هذا الطريق الاستاذ هو من يبحث عن الطالب و لكن كما قال شاعرهم "الطبيب موجود و لكن اين المرضى ؟".
الايجابية المفرطة : ان من اهم الامور التي يركز عليها كويلو في اعماله هي ضرورة النظرة الايجابية الى الحياة و ان الانسان مهما يكن في عسر يستطيع ان ينظر نظرة اجابية الى موقفه . طبعا لا بأس بهذه النظرة بشكل عام و لكن كويلو يأخذ هذا الامر الى الحدود القصوى فيقدمه في الاهمية على جهد الانسان بل على التدخل الالهي . و هذا الكلام غير دقيق فالنظرة الايجابية ليس لها تلك القيمة في خصوص مسائل السير الروحي فهل سأصل الى المقصد بمجرد الجلوس مبتسما و تكرار " الحياة جميلة ، نعم سأصل ، نعم سأصل !"؟ كلا ، انما دائما الفتح يأتي بتدخل الهي بعد ان يصل الانسان الى باب مسدود فيعرف ان جهده لن يوصله الى اي مكان اذا لم يأخذ الله سبحانه و تعالى بيده و هذه النقطة من البديهيات عند اهل السلوك ، قال تعالى " أمن يجيب المضطر اذا دعاه و يكشف السوء".
به عنايت نظرى كن كه من دلشده را --- نرود بى مهر لطف تو كارى از بيش
اما اذا تجاوزنا خصوص مسائل السير الروحي و انتقلنا الى النظرة الايجابية في الواقع اليومي فهنا ايضا يجب ان تكون الاولوية للجهد الشخصي على فرض كون الشخص غير مؤمن بالله ابتداءً. فمهما يكن للايجابية من قوة فالمشاكل لا تختفي بمجرد التمني على طريقة " نظرية السر ". فإن قلت ايجابية و لكن بعمل فأقول عمل و لكن بايجابية لكون الاصالة للعمل اذ انه يؤتي ثمارا سواءً رافقته الايجابية ام لم ترافقه.
الباطنية : في مواطن مختلفة نجد كويلو على لسان احد ابطال قصصه يبين ان المهم هو ما في الباطن و ان الظواهر انما هي طقوس ثانوية بل قد تكون حجبا و من ذلك قراءة الكتب المقدسة و الكتب الفلسفية . و من الواضح فساد هذا الاعتقاد اذا اخذ على اطلاقه فالامور الظاهرية قيود تحرس السالك من الوقوع في الاباحية و الانحلالية و ما يضره جسديا و روحيا و لا يوجد دين الا و لديه قائمة من المحذورات . اما التبرير بأهمية الباطن للالتفاف حول اهمية الظاهر فلا نجده عادة الا عند بعض الرهبان او الروحانين الذين تتكشف نواياهم لاحقا بفضائح اخلاقية بل ان مسألة تهميش دور الالتزام بالظواهر معيار جيد لمعرفة المرشد الحقيقي من المرشد المزور. هذا و لكن اذا كان المراد فقط لفت النظر الى اهمية الباطن فلا بأس بذلك لان عامة الناس حتى من يهتمون بالامور الروحانية ينساقون خلف الشكليات و المظاهر و يغفلون الباطن .
التعلم بالتجربة و السفر : و هذه من اهم النقاط التي تتكرر في روايات كويلو و لا غرو اذ انه الابن البار لحركة الهيبيز و قد سبق ان ذكرنا اهتمام الهيبيز بمسألة السفر. البعض قد يقلل من اهمية مسألة السفر بحجة ان السفر المعنوي مختلف عن السفر المادي فنحن لسنا بحاجة للانتقال من مكاننا لكي نسير معنويا . و قد يكون هذا الكلام صحيحا فكما تقول الحكمة البوذية " لن تجد في الجبل الا المعرفة التي جلبتها معك من القرية " ، الا ان هناك ميزة للسفر المادي حيث ان الانسان ابن العادة و من الصعب ان يكسر روتينه و عاداته و انماطه الذهنية اليومية فيحتاج الى بذل جهد متواصل للحفاظ على طهارة وعيه و اتخاذ قراراته بوعي لا بشكل لا شعوري كما المعتاد . و هنا يأتي دور السفر المادي فهو بتوفيره البيئة الجديدة يستطيع كسر الانماط الراسخة و اعادة برمجة العادات بسهولة أكبر لان البيئة الجديدة تستدعي توجها جديدا كاملا اذ العقل بعد لم يضع خطته و يستحكم انماطه.
و لنختم بهذه المقطوعة من دعاء بتروس :
"الرحمة لهؤلاء الذين لا يرون احدا اعظم من انفسهم و لا يأبهون للاخرين و يعتبرونهم منظرا غامضا و بعيدا . هؤلاء الذين يعبرون الطريق بسياراتهم الليموزين و ينعزلون في مكاتبهم المكيفة في الطابق الاخير و هم يتعذبون بصمت بسبب وحدة قوتهم. لكن الرحمة ايضا لهؤلاء الذين تظل اياديهم مبسوطة للاحسان و الخير و يريدون الانتصار على الشر بالحب وحده لانهم يجهلون شريعتك التي تقول " من ليس له سيف فليبع رداءه و يشتر سيفا " .
دمتم في الرضا ،
بعد قراءة "هيبي" النسخة الانجليزية قررت الرجوع الى الوراء و استكشاف بعض اعمال كويلو الاكثر شهرة فبدأت بالخيميائي النسخة العربية لانها موجودة عندي منذ سنوات و من ثم اشتريت نسخة عربية ايضا من رواية الحج - حجم الخط كان انسب من الانجليزية - و لكن يبدو ان العنوان هنا مختلف فقد ترجم الى "حاج كومبوستيلا" . منذ البداية ظهر لي جليا ان الكاتب لم يستطع الفرار من فخ التكرار كما هو ديدن بعض المشاهير من الكتاب في هذا الزمن ، فلو قلنا ان هيبي هي قصة رحلة صوفي نحو الروحانية فإن الخيميائي قصة ملحد نحو الروحانية و كذا الحج قصة مسيحي نحو الروحانية . و يبدو لي ان هذا الثيم يتكرر في الاعمال التي لم اقراها من مثل "بريدا" حيث تحكي قصة امراة نحو الروحانية على ما اطلعت من بعض المواقع. قد يقال ان الاحداث مختلفة في هذه الروايات فأجيب نعم الاحداث مختلفة في تفاصيلها و لكن مكررة في اهدافها و ايضا في الصعوبات التي يواجهها ابطالها و طرق التغلب عليها فالتجارب الروحية واحدة و ان كانت ظاهريا مختلفة بحسب اختلاف عادات و تقاليد الزمان و المكان . لنبدأ بالخيميائي فهذه القصة الاكثر مبيعا كانت مخيبة للآمال فهي فنيا ليست بالمستوى المطلوب اذ القصة و الشخصيات جدا بسيطة بل بدائية اذا كنا نتكلم عن قصة يراد لها ان تكون من افضل ما كتب في التاريخ . مع هذا أدرك سبب الاقبال الكبير على هذه الرواية فهي بمثابة تغليف حديث لمفاهيم روحية غابت عن المجتمع الغربي بإطار بعيد عن اي دين معروف فلا عجب ان يكون الاقبال عليها شديدا . و من هنا نعرف سبب تفوق الخيميائي على غيرها في المبيعات فرواية الحج مثلا بوجهة نظري افضل من الخيميائي فنيا الا انها مثقلة بالطقوس و الاشارات المسيحية و لهذا لن تجد الاقبال المطلوب عليها من قبل القراء الذين لديهم قناعات سلبية تجاه الاديان بشكل عام ، و هكذا رواية هيبي لن تحظى بالقبول العام لانها متأثرة بالطقوس الصوفية و الافكار التحررية للهيبيز . اذاً الميزة الوحيدة للخيميائي هي تجريدها المفاهيم الروحية لتناسب كل الناس من جميع الطوائف و الملل لكن بهذا العمل يبدو لي ان كويلو وقع في فخ ابتذال التجربة الروحية فبدلا من التوجه بالدعاء الى خالق حكيم يتحول التوجه الى الكون، و تصبح التفاؤلية هي المعيار الاساسي للسعادة و النجاح في هذه الحياة بدلا من الجهد الفردي او التدخل الالهي ، الى اخره من الهرطقات التي يقدمها الروحانيون الجدد .
عودة الى الرواية الثانية رواية الحج فهي تحكي قصة حج تمتد حوالي 500 من الكيلومترات ابتداءً من احدى المدن الفرنسية و انتهاءً بضريح مار يعقوب في اسبانيا . و قد قام كويلو بهذه الرحلة في منتصف الثمانينات بحثا عن سيفه الذي اعطته جمعية "الميراث" و فقده اثر فشله في اختباره الاخير . في هذه الرحلة يرافق كويلو مرشدٌ جديد يقوم بتعليمه بعض التمارين الروحية و يساعده في تجاوز الاختبارات الكثيرة في هذه الرحلة الروحانية فيتعلم منه الكثير من الحكمة على مدى مقامات يجب ان يغوص في غمراتها كل سالك و طالب للمعرفة. هذه الرواية بدأت بداية واعدة جدا و لكن مع تقدم الرواية لا نجد الا مزيدا من التمارين التي تصبح مع مكاشفاتها في احيان كثيرة كأنها مأخوذة من كتب تطوير الذات مع مبالغات قد تصل الى حد الابتذال فتصبح الخلطة كلها غريبة عجيبة او كما يقول الاجانب "مامبو جامبو" . و قد قرأت لاحقا ان كويلو من رواد كتابة الروايات التي قد تصنف في احيان كثيرة نوعا من انواع تطوير الذات . ان محاولة كويلو الجمع بين الرواية و بين تطوير الذات و استغلال التجربة الروحية ادى الى مزيج غير متكامل من العناصر الثلاثة انتهى بأن يصفه بعض النقاد بالسطحي . بعبارة اخرى ان اسلوبه سيعجب القارئ من عامة الناس و لكنه ضحى بالعمق الفلسفي و الاحترافية الادبية في سبيل الوصول الى ذلك . هذا و لازلت لا اعرف سببا لهذه النهايات الباردة التي يقدمها كويلو في اعماله الثلاثة " هيبي ، الخيميائي و الحج ".
الان لنتكلم بشكل سريع عن بعض النقاط التي يكررها كويلو في اعماله :
تعدد الطرق : ان من الرسائل التي يحاول كويلو ايصالها الى القارئ مسألة تعدد الطرق و وحدة الهدف بمعنى ان كل الاديان و المذاهب في النهاية توصل الى الله سبحانه و تعالى . بل قد يقال ان حياة كويلو دليل عملي على هذا الامر فهو لا يأبى ان يتتلمذ عند شخص صوفي و لا يأبى ان يرقص هاري كريشنا الهندوسية اضافة الى كونه مسيحيا كما رأينا في رواية الحج . هذا الاسلوب الانتقائي التنقلي واقعا ليس من ابتكارات كويلو بل ان اغلب الهيبيز كانوا يؤمنون بفكرة المزج بين التقنيات المختلفة التي تقدمها الاديان للوصول الى المقصد . هذه الطريقة و ان كانت في بداية الامر عقلائية و مغرية ، فأنت تأخذ افضل ما يقدمه كل دين و تترك ما لا ينفعك الا انها مقدرة للفشل عمليا بل حتى نظريا و يبدو لي ان اغلب من كانوا يدعون الى مثل هذه الطريقة المزجية في النهاية لم يصلوا الى المقصد الاعلى . أما الفشل من الناحية النظرية فلأن الطقوس الدينية لا تؤخذ منفردة بل لها لوازم و توابع و هذه اللوازم تتعارض بين الاديان فمثلا لا يعقل ان يرقص مسلم على نغم هاري كريشنا او ان يحج هندوسي الى الكعبة لان الرقص او الحج ليس مجرد شكل ظاهري و انما له لوازم اعتقادية ستتعارض كما هو واضح في حالة الهندوسي و المسلم . اما من الناحية العملية فعدم الالتزام بطريقة واحدة و التنقل بين طريقة و اخرى انما هو دليل الحيرة و لا يؤدي الا الى مزيد من التشتت و الحال اننا في الرحلة الباطنية نحتاج الى نقطة ثبات. بعبارة اخرى السالك يحتاج الى التخلي اكثر من الاكتساب . فالحاصل ان من يريد الوصول لا يحتاج الى التنقل من مدرسة الى اخرى بل عليه ان يثبت على طريقة واحدة ويعطيها كل ما لديه.
المرشد في الرحلة الروحية : ان كويلو يشدد في رواياته على اهمية المرشد في الرحلة الروحية و هذا صدى لدعوة العرفاء دائما الى عدم سلوك هذا الطريق بدون مرشد . و قد سبق ان تكلمت عن هذه النقطة في مقالة نظر العارف السابعة فقلت " من المعروف ان من يريد ان يتعلم فنا او حرفة او علما يحتاج الى استاذ يعلمه ذلك و هذا شيء بديهي لا يختلف عليه احد الا ان البعض يستثني السلوك و التجربة الروحية فيقول انه لا حاجة الى استاذ فالطريق واضح و بين . و قد يقال انه فعلا بالامكان لاي شخص اذا كان ذكيا و متوقدا ان يتعلم اي فن يريده و الامثلة في التاريخ كثيرة . نقول نعم نظريا يمكن و لا توجد استحالة عقلية هنا و لكن هذا الاستثناء و تبقى القاعدة العامة فمن يريد ان يتعلم شيئا في غالب الامر لا يستطيع الا بالتعلم من استاذ بل انه عقليا يجب عليه اختيار الاستاذ لكي يختصر له المشوار و لكي لا يخاطر فيتعلم خطأ و يورد نفسه و غيره التهلكة في كثير من المجالات ، فلا اعتقد ان الكثير من الناس سيقبلون ان يجري عليهم طبيب عملية جراحية اذا علموا بأنه تعلم بنفسه من خلال الكتب و القراءة بدون ان يتتلمذ و يكون تحت اشراف جامعة و اطباء مهرة. كذلك التجربة الروحية عندما تتطور تحتاج الى مرشد حاذق يعرف خبايا النفس و ملتويات الطريق و الا قد يصل الانسان الى حالات من الانفصال عن الواقع او يضل عن الجادة المستقيمة . و اما عندما يشير بعض الاولياء في مقولات كثيرة الى انه لا حاجة الى معلم في هذا الباب فالكلام من ناحية الاساسيات فعامة الناس لا تعمل بالاساسيات الواضحة المعروفة لكل عامي و يريدون القفز الى مرحلة الكرامة و الاذكار و المكاشفات فالولي هنا يعيد السائل الى الواقع فيقول له انت لم تعمل بما تعلمته فلماذا تريد ان تزيد المعلوم على حساب العمل ؟ الامر اشبه بمن يريد تعلم الرياضيات في مستوى الجامعة عند البروفيسور الفلاني و هو لا يعرف العمليات الاربع و الاساسيات فننصحه فنقول انت الان لا تحتاج الى البروفيسور الفلاني فقط عليك اولا ان تتعلم المستوى الاول و تمارس التمارين حتى يصبح ملكة عندك و تظهر الجد في التعلم حتى نعطيك المستوى الثاني و الثالث الى ان تصبح مؤهلا ان يأتي البروفيسور المتخصص فيدرسك المستويات العليا . هذا حالنا فنحن لم نتعلم و لم نلتزم بألف باء الفقه من خلال سؤال المشايخ و العلماء و نريد ان يأتي مرشد موسى عليه السلام ليأخذ بأيدينا . و قد قالوا اذا أصبح الطالب جاهزا سيأتي الاستاذ ، ففي هذا الطريق الاستاذ هو من يبحث عن الطالب و لكن كما قال شاعرهم "الطبيب موجود و لكن اين المرضى ؟".
الايجابية المفرطة : ان من اهم الامور التي يركز عليها كويلو في اعماله هي ضرورة النظرة الايجابية الى الحياة و ان الانسان مهما يكن في عسر يستطيع ان ينظر نظرة اجابية الى موقفه . طبعا لا بأس بهذه النظرة بشكل عام و لكن كويلو يأخذ هذا الامر الى الحدود القصوى فيقدمه في الاهمية على جهد الانسان بل على التدخل الالهي . و هذا الكلام غير دقيق فالنظرة الايجابية ليس لها تلك القيمة في خصوص مسائل السير الروحي فهل سأصل الى المقصد بمجرد الجلوس مبتسما و تكرار " الحياة جميلة ، نعم سأصل ، نعم سأصل !"؟ كلا ، انما دائما الفتح يأتي بتدخل الهي بعد ان يصل الانسان الى باب مسدود فيعرف ان جهده لن يوصله الى اي مكان اذا لم يأخذ الله سبحانه و تعالى بيده و هذه النقطة من البديهيات عند اهل السلوك ، قال تعالى " أمن يجيب المضطر اذا دعاه و يكشف السوء".
به عنايت نظرى كن كه من دلشده را --- نرود بى مهر لطف تو كارى از بيش
اما اذا تجاوزنا خصوص مسائل السير الروحي و انتقلنا الى النظرة الايجابية في الواقع اليومي فهنا ايضا يجب ان تكون الاولوية للجهد الشخصي على فرض كون الشخص غير مؤمن بالله ابتداءً. فمهما يكن للايجابية من قوة فالمشاكل لا تختفي بمجرد التمني على طريقة " نظرية السر ". فإن قلت ايجابية و لكن بعمل فأقول عمل و لكن بايجابية لكون الاصالة للعمل اذ انه يؤتي ثمارا سواءً رافقته الايجابية ام لم ترافقه.
الباطنية : في مواطن مختلفة نجد كويلو على لسان احد ابطال قصصه يبين ان المهم هو ما في الباطن و ان الظواهر انما هي طقوس ثانوية بل قد تكون حجبا و من ذلك قراءة الكتب المقدسة و الكتب الفلسفية . و من الواضح فساد هذا الاعتقاد اذا اخذ على اطلاقه فالامور الظاهرية قيود تحرس السالك من الوقوع في الاباحية و الانحلالية و ما يضره جسديا و روحيا و لا يوجد دين الا و لديه قائمة من المحذورات . اما التبرير بأهمية الباطن للالتفاف حول اهمية الظاهر فلا نجده عادة الا عند بعض الرهبان او الروحانين الذين تتكشف نواياهم لاحقا بفضائح اخلاقية بل ان مسألة تهميش دور الالتزام بالظواهر معيار جيد لمعرفة المرشد الحقيقي من المرشد المزور. هذا و لكن اذا كان المراد فقط لفت النظر الى اهمية الباطن فلا بأس بذلك لان عامة الناس حتى من يهتمون بالامور الروحانية ينساقون خلف الشكليات و المظاهر و يغفلون الباطن .
التعلم بالتجربة و السفر : و هذه من اهم النقاط التي تتكرر في روايات كويلو و لا غرو اذ انه الابن البار لحركة الهيبيز و قد سبق ان ذكرنا اهتمام الهيبيز بمسألة السفر. البعض قد يقلل من اهمية مسألة السفر بحجة ان السفر المعنوي مختلف عن السفر المادي فنحن لسنا بحاجة للانتقال من مكاننا لكي نسير معنويا . و قد يكون هذا الكلام صحيحا فكما تقول الحكمة البوذية " لن تجد في الجبل الا المعرفة التي جلبتها معك من القرية " ، الا ان هناك ميزة للسفر المادي حيث ان الانسان ابن العادة و من الصعب ان يكسر روتينه و عاداته و انماطه الذهنية اليومية فيحتاج الى بذل جهد متواصل للحفاظ على طهارة وعيه و اتخاذ قراراته بوعي لا بشكل لا شعوري كما المعتاد . و هنا يأتي دور السفر المادي فهو بتوفيره البيئة الجديدة يستطيع كسر الانماط الراسخة و اعادة برمجة العادات بسهولة أكبر لان البيئة الجديدة تستدعي توجها جديدا كاملا اذ العقل بعد لم يضع خطته و يستحكم انماطه.
و لنختم بهذه المقطوعة من دعاء بتروس :
"الرحمة لهؤلاء الذين لا يرون احدا اعظم من انفسهم و لا يأبهون للاخرين و يعتبرونهم منظرا غامضا و بعيدا . هؤلاء الذين يعبرون الطريق بسياراتهم الليموزين و ينعزلون في مكاتبهم المكيفة في الطابق الاخير و هم يتعذبون بصمت بسبب وحدة قوتهم. لكن الرحمة ايضا لهؤلاء الذين تظل اياديهم مبسوطة للاحسان و الخير و يريدون الانتصار على الشر بالحب وحده لانهم يجهلون شريعتك التي تقول " من ليس له سيف فليبع رداءه و يشتر سيفا " .
دمتم في الرضا ،