ما بعد قراءة " المحاكمة " لكافكا
بسم الله الرحمن الرحيم
فرانز كافكا يعتبر من اهم الكتاب في القرن الماضي فقد لقب بـ "دانتي القرن العشرين". له تأثير عميق على مسيرة الادب و الفن بشكل عام فقد تأثر به امثال جان بول سارتر و غابريل جارسيا ماركيز. اعماله مكتوبة باللغة الالمانية تتناول العديد من المواضيع من اهمها البيرقراطية و تأثيرها على حياة المواطن. الكاتب لم يشتهر في ايام حياته بل انه اوصى صديقه "ماكس برود" بحرق جميع اعماله بعد موته و لكن لحسن الحظ لم يلتزم صديقه بتلبية رغبته و قام بنشر هذه الاعمال. هذا اضافة الى ان بعض مذكراته و مسوداته حفظتها احدى عشيقاته. اصيب بالسل و مات جوعا اذ غدا غير قادر على الاكل بسبب الالام الشديدة في حلقه اثناء الاكل فلم يعمر اكثر من اربعين سنة .
الرواية باختصار تحكي قصة شخص يدعى جوزيف كي و الى نهاية القصة يذكر بـ K فقط و هي اولى الترميزات الى اننا نعيش في زمان لا توجد به هوية حقيقية للافراد . تبدأ القصة عندما يستيقظ "كي" ليجد بالباب رجلين يخبرانه بأنه مطلوب للمحاكمة و لكنهما لم يبينا له نوع جريمته التي يستوجب عليها المحاكمة . تتطور الاحداث من هنا فيحاول كي بكل شكل من الاشكال ان يستخرج حكم براءته سواءً بنفسه او من خلال محاميه و لكن كيف تدافع عن نفسك اذا كنت لا تعرف ما هي تهمتك ابتداءً ؟ حقيقة بعد قراءة الفصل الاول سألت نفسي كيف سيدفع بعجلة الاحداث قدما خصوصا انه لن يبين نوع الجريمة و لكن كافكا كان اوسع خيالا مني اذ انه لم يكتف بدفع عجلة الاحداث فحسب بل انه كان يفعل ذلك بشكل سريع و متواصل و لم اجد الكثير من التطويل الممل الا في الفصل الثامن و ليس بتطويل حقيقة اذا ما قورن بأعمال ادبية اخرى .
من الصعوبة بمكان ان تتحدث عن رواية المحاكمة لانها كما بقية اعمال كافكا يمكن ان تقرا من عدة زوايا و يمكن ان تفسر تفسيرات متباينة جدا . كافكا متميز عن بقية الكتاب اذ ان تأثيره ليس على شكل اقتباسات مأثورة عنه او مجرد فنيات ادبية معينة و انما كافكا يقدم منظورا جديدا كليا. بل انه هناك مصطلح "كافكاسك" يطلق على هذا النفس الكافكاوي لهذا من الصعوبة ان تصف لشخص عملا من اعمال كافكا بل يجب على القارئ ان يقرا بعضا من اعمال كافكا و سيعيش هو هذا النفس و سيستطيع ان ينظر للامور من خلال منظار كافكا المميز.
في اعماله الكثير من النقد للبيرقراطية " الدواوينية " ففي المحاكمة نجد تصويرا و نقدا لاشكال متنوعة من الدواوينية . في هذه الرواية يقف بطل القصة وجها لوجه في مواجهة النظام القضائي و الذي نجد ان كافكا نفسه قد عايش المعاناة في وظيفته و حياته الشخصية . لهذا لا توجد غرابة عندما تجد كما كبيرا من الكلمات القانونية في الرواية . في مشاهد كثيرة خصوصا ما يتعلق بالمكاتب التابعة للمحكمة نجد ان كافكا يركز على الفوضوية و التعقيد و كثرة الاجراءات و الاعمال الورقية .
أعتقد ان الرواية في كثير من الاحيان تنتقد نمط الحياة الحديثة و تطرح تساؤلات جادة عن جدوى هكذا حياة حيث تنعدم الهوية الفردية و يصبح الانسان اسير العمل الميكانيكي و كأنه روبوت يعمل صباحا و يعود مساءً ليرتاح فيعاود العمل صباح اليوم التالي فالعمل هنا تفرضه و تسييره الحكومات و الشركات العملاقة . هذا و ان ثقافة المجتمع تشجع و تساعد على هكذا انهماك في وظائف الشركات و الدوائر فلا احد يرى بأسا من ان يعيش ليعمل لا ان يعمل ليعيش ، بل يعتبر هذا من باب التفاني و الاخلاص و حتى دينيا يوجه توجيهات ايجابية مثل انه كد على العيال و ما الى ذلك . ايضا هناك مواجهة للاعراف و القيم الاجتماعية و انها هي الاخرى لا تقدم مفهوما جيدا للحياة . ففي روايته المشهورة الاخرى التحول "Metamorphosis" يستيقظ بطل الرواية من النوم ليجد نفسه قد تحول الى حشرة عملاقة اشبه ما تكون بالصرصار و بعد ان تذهب الصدمة من افراد عائلته يبدأون بالبحث عن العمل حيث ان الام و الاب و الاخت كانوا يعيشون على مرتبه . و مع الوقت نجد ان العائلة تتضجر من وجوده و انه عالة عليها و يجب التخلص منه الى ان يسمع كلامهم فيذهب ليموت غير مأسوف عليه و تتابع العائلة حياتها و كأن شيئا لم يكن . فهنا نلاحظ ان البطل كان يعيل ثلاثة اشخاص بالمقابل هم ثلاثة يعيلون شخصا واحدا و مع ذلك ضاقوا به ذرعا و هذه اشارة الى ما آلت اليه البراغماتية في الغرب . هنا يضع العلاقات العائلية بكل جرأة تحت السؤال فهل هي مجرد علاقات تعتمد على المصلحة المتبادلة و المنفعة الوقتية ؟
من الاشياء الملاحظة ان بطل القصة مع مرور الوقت و ازدياد اليأس يبدا بالانحطاط تدريجيا لينتهي به المطاف مضاجعا عشيقة محاميه المقعد هذا و محاميه على سرير المرض و بجانبه عم كي المذهول من انحطاط كي. هذه اضافة الى انه التجأ الى طرق اخرى للالتفاف على القانون قد تشير و بشكل غير مباشر الى ان النظام القضائي هو ما ساعد على انحطاط كي بعد ان بدا القصة كمواطن نزيه يعمل كرئيس في احد البنوك الكبيرة .
عندما كنت اقرا الرواية كنت ارسم المشاهد في مخيلتي و كلها كانت مشاهدا بالابيض و الاسود فكافكا عندما يرسم بيئته يفرض عليك نمطا ذهنيا داكنا يعرفه من له اطلاع على بعض الاعمال السينمائية مثل " المدينة السوداء ". هذا و يوجد فيلم مستوحى من الرواية باسم المحاكمة لاورسون ويلز و هو بالابيض و الاسود لكني لم اشاهده .
على ان السمة الغالبة للرواية هي الكآبة و القلق الا ان كافكا يرسم بعض المشاهد المضحكة في اماكن مختلفة من الرواية فمثلا الى الان تشدني غرابة و سخرية مشهد كي و زبون البنك . في هذا المشهد يدخل الزبون الى مكتب كي بعد انتظار طويل لكي يحاول ان يقنعه بمنح قرض لمشروعه فهو و بكل حماس يضع المستندات على الطاولة و يقوم بالشرح و الكلام و لكن كي غارق في افكاره و ينظر الى رأس الزبون الاصلع و هو يتحرك ذهابا و ايابا .
قرأت الرواية بترجمة برون ميتشل و التي تعتبر من افضل الترجمات الانجليزية لهذه الرواية العريقة ان لم تكن الافضل. و بما ان الرواية لم تكن مكتملة بشكلها النهائي عند وفاة كافكا فقد قام فريق من المتخصصين بمحاولة استعادة النص و ترتيب الفصول بالشكل المناسب بناء على المسودات الموجودة . و مع كل ذلك فقد قاموا بوضع بعض الفصول القصيرة بعد نهاية الرواية اذ يبدو انهم لم يعرفوا مكانا مناسبا لها او انهم وجدوا انها ناقصة و قصيرة جدا فلا تصلح لان تكون فصولا مستقلة . و قد قرأت ان هناك بعض المخطوطات لا زالت لم تنشر فهناك معركة قانونية بخصوص الحقوق بين اطراف مختلفة ، لهذا مع الوقت قد تنشر اعمال جديدة لكافكا و لربما نرى بعض التكميلات لهذه الرواية الجميلة .
ختاما قد ترجمت سابقا قصة قصيرة جدا لكافكا بعنوان " الزمالة " تجدونها هنا :
http://alyassen.com/blog.pl/kafka-short-story.html
دمتم في الرضا ،
فرانز كافكا يعتبر من اهم الكتاب في القرن الماضي فقد لقب بـ "دانتي القرن العشرين". له تأثير عميق على مسيرة الادب و الفن بشكل عام فقد تأثر به امثال جان بول سارتر و غابريل جارسيا ماركيز. اعماله مكتوبة باللغة الالمانية تتناول العديد من المواضيع من اهمها البيرقراطية و تأثيرها على حياة المواطن. الكاتب لم يشتهر في ايام حياته بل انه اوصى صديقه "ماكس برود" بحرق جميع اعماله بعد موته و لكن لحسن الحظ لم يلتزم صديقه بتلبية رغبته و قام بنشر هذه الاعمال. هذا اضافة الى ان بعض مذكراته و مسوداته حفظتها احدى عشيقاته. اصيب بالسل و مات جوعا اذ غدا غير قادر على الاكل بسبب الالام الشديدة في حلقه اثناء الاكل فلم يعمر اكثر من اربعين سنة .
الرواية باختصار تحكي قصة شخص يدعى جوزيف كي و الى نهاية القصة يذكر بـ K فقط و هي اولى الترميزات الى اننا نعيش في زمان لا توجد به هوية حقيقية للافراد . تبدأ القصة عندما يستيقظ "كي" ليجد بالباب رجلين يخبرانه بأنه مطلوب للمحاكمة و لكنهما لم يبينا له نوع جريمته التي يستوجب عليها المحاكمة . تتطور الاحداث من هنا فيحاول كي بكل شكل من الاشكال ان يستخرج حكم براءته سواءً بنفسه او من خلال محاميه و لكن كيف تدافع عن نفسك اذا كنت لا تعرف ما هي تهمتك ابتداءً ؟ حقيقة بعد قراءة الفصل الاول سألت نفسي كيف سيدفع بعجلة الاحداث قدما خصوصا انه لن يبين نوع الجريمة و لكن كافكا كان اوسع خيالا مني اذ انه لم يكتف بدفع عجلة الاحداث فحسب بل انه كان يفعل ذلك بشكل سريع و متواصل و لم اجد الكثير من التطويل الممل الا في الفصل الثامن و ليس بتطويل حقيقة اذا ما قورن بأعمال ادبية اخرى .
من الصعوبة بمكان ان تتحدث عن رواية المحاكمة لانها كما بقية اعمال كافكا يمكن ان تقرا من عدة زوايا و يمكن ان تفسر تفسيرات متباينة جدا . كافكا متميز عن بقية الكتاب اذ ان تأثيره ليس على شكل اقتباسات مأثورة عنه او مجرد فنيات ادبية معينة و انما كافكا يقدم منظورا جديدا كليا. بل انه هناك مصطلح "كافكاسك" يطلق على هذا النفس الكافكاوي لهذا من الصعوبة ان تصف لشخص عملا من اعمال كافكا بل يجب على القارئ ان يقرا بعضا من اعمال كافكا و سيعيش هو هذا النفس و سيستطيع ان ينظر للامور من خلال منظار كافكا المميز.
في اعماله الكثير من النقد للبيرقراطية " الدواوينية " ففي المحاكمة نجد تصويرا و نقدا لاشكال متنوعة من الدواوينية . في هذه الرواية يقف بطل القصة وجها لوجه في مواجهة النظام القضائي و الذي نجد ان كافكا نفسه قد عايش المعاناة في وظيفته و حياته الشخصية . لهذا لا توجد غرابة عندما تجد كما كبيرا من الكلمات القانونية في الرواية . في مشاهد كثيرة خصوصا ما يتعلق بالمكاتب التابعة للمحكمة نجد ان كافكا يركز على الفوضوية و التعقيد و كثرة الاجراءات و الاعمال الورقية .
أعتقد ان الرواية في كثير من الاحيان تنتقد نمط الحياة الحديثة و تطرح تساؤلات جادة عن جدوى هكذا حياة حيث تنعدم الهوية الفردية و يصبح الانسان اسير العمل الميكانيكي و كأنه روبوت يعمل صباحا و يعود مساءً ليرتاح فيعاود العمل صباح اليوم التالي فالعمل هنا تفرضه و تسييره الحكومات و الشركات العملاقة . هذا و ان ثقافة المجتمع تشجع و تساعد على هكذا انهماك في وظائف الشركات و الدوائر فلا احد يرى بأسا من ان يعيش ليعمل لا ان يعمل ليعيش ، بل يعتبر هذا من باب التفاني و الاخلاص و حتى دينيا يوجه توجيهات ايجابية مثل انه كد على العيال و ما الى ذلك . ايضا هناك مواجهة للاعراف و القيم الاجتماعية و انها هي الاخرى لا تقدم مفهوما جيدا للحياة . ففي روايته المشهورة الاخرى التحول "Metamorphosis" يستيقظ بطل الرواية من النوم ليجد نفسه قد تحول الى حشرة عملاقة اشبه ما تكون بالصرصار و بعد ان تذهب الصدمة من افراد عائلته يبدأون بالبحث عن العمل حيث ان الام و الاب و الاخت كانوا يعيشون على مرتبه . و مع الوقت نجد ان العائلة تتضجر من وجوده و انه عالة عليها و يجب التخلص منه الى ان يسمع كلامهم فيذهب ليموت غير مأسوف عليه و تتابع العائلة حياتها و كأن شيئا لم يكن . فهنا نلاحظ ان البطل كان يعيل ثلاثة اشخاص بالمقابل هم ثلاثة يعيلون شخصا واحدا و مع ذلك ضاقوا به ذرعا و هذه اشارة الى ما آلت اليه البراغماتية في الغرب . هنا يضع العلاقات العائلية بكل جرأة تحت السؤال فهل هي مجرد علاقات تعتمد على المصلحة المتبادلة و المنفعة الوقتية ؟
من الاشياء الملاحظة ان بطل القصة مع مرور الوقت و ازدياد اليأس يبدا بالانحطاط تدريجيا لينتهي به المطاف مضاجعا عشيقة محاميه المقعد هذا و محاميه على سرير المرض و بجانبه عم كي المذهول من انحطاط كي. هذه اضافة الى انه التجأ الى طرق اخرى للالتفاف على القانون قد تشير و بشكل غير مباشر الى ان النظام القضائي هو ما ساعد على انحطاط كي بعد ان بدا القصة كمواطن نزيه يعمل كرئيس في احد البنوك الكبيرة .
عندما كنت اقرا الرواية كنت ارسم المشاهد في مخيلتي و كلها كانت مشاهدا بالابيض و الاسود فكافكا عندما يرسم بيئته يفرض عليك نمطا ذهنيا داكنا يعرفه من له اطلاع على بعض الاعمال السينمائية مثل " المدينة السوداء ". هذا و يوجد فيلم مستوحى من الرواية باسم المحاكمة لاورسون ويلز و هو بالابيض و الاسود لكني لم اشاهده .
على ان السمة الغالبة للرواية هي الكآبة و القلق الا ان كافكا يرسم بعض المشاهد المضحكة في اماكن مختلفة من الرواية فمثلا الى الان تشدني غرابة و سخرية مشهد كي و زبون البنك . في هذا المشهد يدخل الزبون الى مكتب كي بعد انتظار طويل لكي يحاول ان يقنعه بمنح قرض لمشروعه فهو و بكل حماس يضع المستندات على الطاولة و يقوم بالشرح و الكلام و لكن كي غارق في افكاره و ينظر الى رأس الزبون الاصلع و هو يتحرك ذهابا و ايابا .
قرأت الرواية بترجمة برون ميتشل و التي تعتبر من افضل الترجمات الانجليزية لهذه الرواية العريقة ان لم تكن الافضل. و بما ان الرواية لم تكن مكتملة بشكلها النهائي عند وفاة كافكا فقد قام فريق من المتخصصين بمحاولة استعادة النص و ترتيب الفصول بالشكل المناسب بناء على المسودات الموجودة . و مع كل ذلك فقد قاموا بوضع بعض الفصول القصيرة بعد نهاية الرواية اذ يبدو انهم لم يعرفوا مكانا مناسبا لها او انهم وجدوا انها ناقصة و قصيرة جدا فلا تصلح لان تكون فصولا مستقلة . و قد قرأت ان هناك بعض المخطوطات لا زالت لم تنشر فهناك معركة قانونية بخصوص الحقوق بين اطراف مختلفة ، لهذا مع الوقت قد تنشر اعمال جديدة لكافكا و لربما نرى بعض التكميلات لهذه الرواية الجميلة .
ختاما قد ترجمت سابقا قصة قصيرة جدا لكافكا بعنوان " الزمالة " تجدونها هنا :
http://alyassen.com/blog.pl/kafka-short-story.html
دمتم في الرضا ،