:: كل المقالات ::

Wed, 09 May 2018

سنة بدون (5) : ترك الترك

بسم الله الرحمن الرحيم

يبدو أن سنة بدون انتهت مبكرا و ذلك لأسباب مختلفة أذكر منها :

1- ذكرت في المقالة الافتتاحية انني سأقوم بمهمات ترك و من ثم اقوم بمهمات اكتساب و لكن عند البداية العملية جعلت عنوان السنة " سنة بدون " اي ان المهمات يجب ان تكون كلها من نوع الترك و لا تشمل مهمات الاكتساب . و هذا قلص الخيارات المتاحة الى حد كبير .
2- انني و مع نهاية الشهر الثالث فعلا وجدت صعوبة في اختيار مهمات جديدة تستأهل العناء لان اغلب المهمات المذكورة في صفحات المدونين اما ليست محل ابتلاء من مثل ترك الكحول و اما انني تاركها فعلا مثل مشاهدة الافلام و الموسيقى و مواقع التواصل الاجتماعي و ما الى ذلك . تبقى نوعية من الامور و ان كنت لم اتركها كليا الا ان وجودها لا يعد شيئا في حياتي من مثل شرب القهوة و الاكل من المطاعم ، لذلك هذه كلها مخالفة لشرط صعوبة المهمة . أيضا هناك المهمات الاخلاقية التي يقوم بها البعض من مثل ترك الغيبة و ترك الكذب و ترك الحسد و ما الى ذلك و هذه بطبيعة الحال لا تستأهل عناء اجراء تجربة كاملة لها و لا ادعي النزاهة هنا و لكن حقا ما نسبة ان يقوم الشخص بهذه الاعمال ؟ أعني حتى غير المتشرع كم مرة مثلا سيكذب في الاسبوع او في الشهر يكفي ان يضبط نفسه في المرة او المرتين التي سيواجه فيها هذه الرغبة فلا ارى مغزى من تخصيص شهر بالتفكر المستمر بـ " لن اكذب هذا الشهر ". الحاصل يبدو انني كما اشرت في المقالة السابقة أعيش حياة رتيبة فهناك القليل من الامور التي يمكن تركها هذه الأيام ، و لكن ارى منافعها اكثر من ضرها فلا افكر حاليا بتركها.
3- اختيار السنة الميلادية كبداية ايضا لم يكن موفقا اذا نظرنا له من جانب الاعتزاز بالهوية الاسلامية خاصة انه لدينا شهر محرم كبداية فعلية للسنة الهجرية و لدينا شهر رمضان كبداية روحية و انطلاقة جديدة بعد ليالي القدر . اضف الى ذلك ان هذا التضارب بين الشهور الميلادية و الشهور الهجرية حتى على المستوى العملي أثر على اختيار المهام و مدى صعوبة تحقيقها فمثلا كنت انوي مع هذا الشهر اختيار تحدي ترك السكريات و بما ان هذا الشهر سيشمل اياما من شهر رمضان رأيت ان المهمة سيئة التوقيت . هكذا قد يحصل ايضا مع شهر ترك اللحوم حيث يقع الشهر الميلادي في فترة الزواجات و المناسبات الموسمية.

هذا لا يعني انني لن اقوم بمثل هذه التجارب بل على العكس انني و منذ زمن طويل اقوم بمثل هذه التجارب و البعض منها اعيد تكراره بين الفينة و الاخرى بل ان التحديات الخمسة الماضية – ترك النظر ، ترك القراءة الالكترونية ، ترك مقاطع التسلية ، ترك اللحوم ، ترك الجوالات الذكية - التي قمت بها و وثقتها في هذه التدوينات هي من الامور التي انوي الرجوع اليها غير مرة و لربما اوصلتها الى حد الترك النهائي . نعم ، لن اقوم بتوثيق التجارب المستقبلية على المدونة.

الان نعود الى عنوان المقالة الا و هو ترك الترك و قد يفهم حرفيا على معنيين :
· انني لن اقوم بترك اي شيء في هذا الشهر .
· انني سأترك سلسلة التروك التي بدأتها .
لكن هذا انما هو لعب على الالفاظ فأنا هنا اردت ان اورد مقولة فارسية لا يحضرني مصدرها ليست ببعيدة عن موضوعنا. يقولون ان الزهد " ترك اولى ، ترك عقبى ، ترك ترك " و هي تلاحظ ان الزاهد يبدأ بترك الامور الدنيوية شيئا فشيئا و لكنه عندما ينتهي من الامور الدنيوية يبدا بترك الاهتمام بالامور الاخروية و المقامات و الكرامات و كل شيء معنوي ثم اذا وصل الى هذه المرحلة فهو يبقى محجوبا بالترك فيحتاج الى ترك الترك لان الذي يترك هذا و يترك ذاك بالنتيجة مشغول بهذه الاشياء فيحتاج الى ترك حتى هذا الترك فلا يشغله شيء عن مرامه . تقريب ذلك ان طالبي المعرفة يسلكون طريقين الى مرادهم الاول بالتخلية ثم التحلية و الثاني بالتحلية ثم التخلية و لكل وجهة نظر و لكن هناك طريق ثالث و هو الانشغال بالمرام الاصلي حتى يستغرق فيه فاذا استغرق فيه لم يعد محتاجا لان يترك او يكتسب فهذه الامور ستأتي عفويا لانه في مقام ارفع منها يحتويها ، و كما قال شاعرهم اذا وصلنا الى الـ 100 فالـ 90 خلفنا .

لذلك عندما تكلمنا عن التقليلية اشرت الى هذه النقطة فالتقليل شيء مطلوب كما ورد فاز المخفون يا سلمان ، بل ان مولاه امير المؤمنين عليه السلام سيد المُقلين اليس هو القائل ألا وإن إمامكم قد اكتفى من دنياه بطمريه، ومن طعمه بقرصيه ؟ و اذا تفكرنا في فريضة الخمس لماذا يقول لنا الشارع ما زاد على مؤنتك يجب اخراج خمسه الا يحتوى الخطاب دلالة ضمنية بالدعوة الى ترك التكاثر و التقليل الى الضروريات ؟ لكن نجد ان القوم في المسلك التقليلي أفرطوا فأصبح شغلهم الشاغل ترك هذا و ترك ذاك حتى الكتب قاموا برميها و الملابس لا يلبسون الا ازواجا محدودة يقومون بإعادة غسلها و لبسها و لا يمتلكون شيئا من الاساسيات بل يقترضونها وقت الحاجة يعتقدون انهم يحسنون صنعا و هم نسوا او تناسوا ذل الحاجة و السؤال . لهذا يمكن ان نقول ان التقليلين هم من الذين حجبوا بالترك فأصبح شغلهم الشاغل و هو بذلك يقلص الفوائد التي يدعونها ابتداءً من الفراغ للاهتمام بالاشياء الاكثر اهمية . فمسألة الزهد و ترك التعلقات ليست في الترك العملي في الدرجة الاولى فقد يكون الشخص لا يملك شيئا و لكنه متعلق بمسباح او سجادة لانها ثمينة او جميلة او انها هدية من شخص عزيز ، فإذا كانت الأنا باقية فستبحث عن شيء تتعلق به فمثلا هؤلاء المدونون التقليليون الذين يتفاخرون بأنهم لا يملكون الا اشياء تعد بالاصابع بوجهة نظري لا يملكون من ترك التعلق شيئا لانهم جميعا يملكون آيفون و جهاز حاسب متنقل و يقضون مجمل وقتهم على مواقع التواصل و تصفح الانترنت بالنتيجة هم تركوا الاشياء التي لا تأخذ الكثير من الوقت و الفكر اساسا فمثلا الملابس التي يتفاخرون بأنهم لا يملكون منها الا زوجا او زوجين هل كانت فعلا تشغل بالهم لكي يتم تركها اساسا ؟ بالنتيجة لو سألت احدهم هل يمكنك ان تترك الايفون و اللابتوب لمدة اسبوع سيقول انه لا يستطيع و سيتحجج بانه يحتاجها لاداء عمله و هذا دليل واضح على انه متعلق بهذه الاشياء و بما تتطلبه من اشتراكات في الخدمات و ما الى ذلك . بعبارة اخرى انهم فقط نقلوا التعلق من اشياء معينة و وضعوه في اشياء اخرى . في الجهة المقابلة يمكن ان يوجد شخص يملك اضعاف ما يملك هؤلاء التقليليون و لكنه حر غير متعلق بأي شيء منها و باله فارغ منها كليا . و بعبارة موجزة أخيرة اللبس الحاصل هنا هو بين حقيقة الشيء و مظاهره مثل حقيقة الكرم و مظاهرها من اطعام و انفاق و ما الى ذلك فهي كلها مظاهر للكرم و ليست الكرم نفسه .


دمتم في الرضا ،