:: كل المقالات ::

Tue, 13 Dec 2016

تجربة مع التقنية و التشتت

بسم الله الرحمن الرحيم
كل سنة تقريبا انقطع عن الكتابة شهري محرم و صفر و لكن هذه السنة كانت مختلفة و تطورت الامور بشكل لم اكن اعددت له حسابا مسبقا. قبل عدة اشهر بدات اعاني من التشتت و عدم القدرة على التركيز لفترات طويلة اضافة الى عدم القدرة على استرجاع الاشياء التي عملتها للتو (اعني الذاكرة القصيرة و الا الذاكرة الطويلة لا تزال ممتازة بحمدالله ) لا اقول وصل المستوى الى شيء شبيه بالزهايمر، لا و لكن وصل الامر الى مرحلة مزعجة حقيقة .
وقتها بدات ادرس حالتي دراسة جادة و بدات بقراءة المقالات المتعلقة بالعقل و كيفية عمله ثم تحصلت على دراسات تشير الى ان الحياة التقنية الحديثة لها دور سلبي في بعض الجهات ذكروا منها التأثير على النوم و الراحة و غير ذلك و لكن ما اهمني كثيرا هي قولهم ان الحياة التقنية تقوم بتربية العقل على نمط قراءة سريع و غير عميق و ذلك لكثرة المشتتات التي نتعامل معها . خذ مثلا لو فتحت مقالة عن شخصية تاريخية و انت تقرا تجد انك لا اراديا فتحت عدة روابط من نفس المقالة تشرح اشياء متعلقة بهذه الشخصية لنقل مثلا المدينة التي عاش فيها ، المعركة الفلانية و الحادثة الفلانية. اضف الى ذلك التنبيهات المستمرة في الجوال و التي تقاطع قراءتك . اعتقد اننا فعلا تعودنا نمط قراءة يعرف بالمسح (skimming) و هذا نتيجة استخدامنا المتواصل لتويتر و الفيسبوك و غيرها مما يشجع على هكذا نمط في القراءة .
قررت لاحقا ان اقلل من استخدام التقنية الى حد كبير و ارى هل فعلا هذه الدراسات لها اثر واقعي ام انها تعميمات مبالغ فيها. و من الاسباب التي جعلتني ابالغ في ترك التقنية رؤيتي لمن حولي و هم دائما يحدقون في شاشاتهم الصغيرة حتى و نحن في اجتماع عائلي و لكم يؤسفني ان تكلم احدهم و هو مشغول عنك بتصفح الواتس و اتساءل لماذا يترك الكلام مع شخص حاضر من اجل شيء وهمي ، و لنعم ما قال احد الرهبان حينما قال " افضل ما يمكن ان تقدمه لمن تحبهم هو حضورك " . حقا اقول و بدون مبالغة ان هذه الايام في الاغلب الناس تسمع لقصتك بتوجه اكبر عندما ترسلها لهم على الواتس. بعد تأمل ادركت انني لا اريد ان يتربى ابني و هو يرى والديه ملتصقين بالجوالات بغض النظر عن استخدامي للجوال فالطفل لا يعرف انك تقرا كتابا الكترونيا او مقالة مفيدة انما الصورة لديه ان والده مدمن جوالات حاله من حال الاخرين . و هل بعدها يمكنني ان اطالب ابني بالتقليل من استخدام الجوال ؟ لذلك لم اعد استخدم الجهاز امام طفلي حتى وصل الامر الى ان اتغيب عنه عندما اريد ان استخدم الجهاز كما يتغيب الاب المدخن عن طفله .
على كل حال ، بدات مرحلة التقليل من استخدام التقنية عمليا و انا فعليا كنت قد تركت البرمجة فسهل علي هذا الامر ان انسى موضوع استخدام الكمبيوتر المحمول الا نادرا جدا و ذلك لكتابة المقالات، فبقي موضوع الجوال . ترك الجوال لم يكن سهلا فالجهاز متغلغل في حياتنا و هذا كشف لي عن ادمان خفي نحب ان نتاجهله على انه غير مضر . بعد تأمل وجدت ان استخدامي للجوال فعلا وصل الى مرحلة الادمان لانني اكتشفت انني اعاني من الارق في اغلب الاوقات و كنت استغل وقت الارق بتشغيل محاضرات الى ان يغلبني النوم . سبب هذا الادمان هو قرب الجهاز و سهولة الوصول " تكلفة الوصول كما يحب البعض ان يسميها" لذلك افضل حل هو ان ترفع من كلفة الوصول . بدات بفصل الشريحة عن الجهاز الذكي و قمت بايصالها بجهاز للاتصالات فقط و قمت برمي الجهاز الذكي في احد الادراج . هذا الحل لم يكن ناجحا كليا اذ انني فعلا قللت من الاستخدام و لكن كنت اتي للجهاز عدة مرات في اليوم كي اقرا التنبيهات . اذا المشكلة الاساسية ليست في الجوال و انما في التنبيهات فهي التي تعطينا اشارة لا ارادية لان نذهب للجوال و نتأكد من عدم وجود شيء ينتظر الرد منا . اذا الخطة الجديدة هي ان اجعل من استخدام الجوال اكثر مللا فقمت بعمل الاتي :
- حذف التويتر : و لم يكن الامر صعبا حيث انني كنت استخدمه لمتابعة المبرمجين غالب الوقت و الان لم اعد مهتما باخبار البرمجة .
- حذف الفيسبوك : ايضا الامر اسهل مما قد يتصور و لم احدث نفسي بالرجوع له الا انني في بعض الاحيان كنت اقول انه شبه قناة اتصال مع بعض افراد العائلة و لكن لم اكن اريد مواضيع عالقة فاخترت الحذف الكلي لان ابقاءه و لو بدون استخدام يبقي الرغبة و الخوف من وجود رد او رسالة تنتظر مني التعليق.
- حذف الانستجرام : هذا سهل جدا و قد حذفته اخر ما حذفت لانني لا ادخله كثيرا اساسا.
- اليوتيوب : لم احذف الحساب لانه لا يوجد جانب اجتماعي فيه و بعد التفكير قررت تركه على ما هو عليه اذ ان بعض المحاضرات و المقاطع النادرة لا يمكن الحصول عليها الا منه ، فقط يحتاج الى تقنين للاستخدام و سيطرة .
- كورا و جودريدز : الاكتفاء بتصفحهما خلال ساعات العمل فقط و اما في المنزل فلا.
الان اصبح الجوال مملا و لولا الواتساب لتركته كليا ، و بدا فعلا من البساطة بمكان الا استخدم الجوال الا لدقائق بسيطة كل يوم و قد جعلت لها وقتا محددا في الليل . لكن قبيل شهر محرم اخذت الاحداث منعطفا جديدا اذ انه سنحت الفرصة لبيع الجهاز "لاسباب خارجة عن اهتمام الموضوع" فبقيت بدون جهاز ذكي . هذه الفترة لم افتقد شيئا كثيرا حقيقة و كنت عازما على ترك استخدام الواتس مع علمي بالصعوبات التي ستواجهني . بقي الوضع قرابة الثلاثة اسابيع تعلمت فيها اشياء كثيرة و لكني اخيرا اشتريت جهازا لوحيا مستعملا و قمت بتركيب الواتس عليه . ما دعاني للرجوع امور :
- لم ادرك مدى تغوغل الواتس في حياتنا الا بعد تركه فعندما كنت اجلس مع احد ما كان يجب علي ان اعيد و اشرح له سبب تركي للواتس و كأن الحياة اصبحت غير ممكنة بدونه و كأن هذا قرار مصيري يجب ان ابرره . لكن الامر الذي حيرني ان الناس فعلا تأخذ الواتس اخذ المسلمات مثلا كلمني سائق الحافلة لطفلتي فقال ارسلت على الواتس منذ فترة و لم ار ردا ! و البعض ارسل مواعيدا ، و مشرفي المدرسة يتابعون اطفالي من خلاله و غير ذلك مع انه واضح من اخر دخول لي انني لا اتواجد عليه .
- بشكل عام لا يمكن انكار ان للجوال و التقنية فوائد كثيرة منها تسهيل الخدمات البنكية ، تسهيل عملية القراءة الالكترونية ، اظهار معاني الكلمات بمجرد لمس الكلمة اثناء قراءة رواية مثلا ، سرعة الوصول للمصادر التي يصعب بل احيانا يستحيل الوصول اليها بدون الانترنت...الخ.
- لكن القشة التي قصمت ظهر البعير كانت مسألة نفسية اكثر من اي شيء اخر فمن المعروف ان العقل يطمع لما هو محروم منه ، مثلا قد تمر اياما كثيرة و انت لم تذق اللحم في طعامك و قد لا تنتبه لهذا الامر و لا تجد اي صعوبات و لكن لو قلت لن اكل اللحم لمدة شهر ! هنا ستتغير المعادلة كثيرا و سيكون من الصعب ان لا تفكر باللحم خاصة عندما تكون هناك الكثير من المؤشرات الخارجية التي تنبهك الى الشيء الممنوع. فقد لاحظت ان التفكير بالتقنية و الجوال و الامور المتعقلة بها ازداد في فترة المقاطعة الكلية لذلك قررت الرجوع لمرحلة الاستخدام الممل و المقنن للجهاز و مرة اخرى امسكت بزمام الامور .
الحاصل ، نعود الى نتيجة التجربة فأقول : ان مسألة التشتت لم تحل كليا بمجرد مقاطعة التقنية و ربما المسالة تحتاج الى وقت اكثر فهذه العادات اكتسبناها خلال سنوات طويلة و طبيعي الا يتغير الوضع خلال شهر او حتى شهور و لانه هناك عوامل اخرى تؤثر على هذا الجانب منها كما علمت لاحقا ان الاشخاص الذين لديهم قراءة كثيرة و مخزون علمي جيد بل حتى كثيري التفكير يسهل تشتتهم لان العقل يقوم على تفريع الافكار من افكار سابقة بمعنى ان العقل يقوم بربط الفكرة الحالية بفكرة قديمة فاذا لم ننتبه للعقل يقوم بمتابعة الفكرة القديمة . لذلك العقل يحتاج الى اكثر من مجرد الغاء المشتتات بل يحتاج الى اعادة برمجة . لتقريب الفكرة لو اغمضنا اعيننا و لم يعد هناك اي مشتتات سواء سمعية او بصرية او حسية او عاطفية او عقلية ، هل العقل سيبقى ثابتا في مكانه ؟! كلا ، لانه في لحظات ستظهر فكرة و سيتشبث بها العقل و يتابعها فتتولد افكار اخرى . و هذا يجرنا للكلام عن كثرة المشاغل و الهموم و الحاجة الماسة الى تقليلها قدر المستطاع و لا اقول تقليل العادات السيئة و المشاغل الغير مهمة بل حتى العادات الجيدة و المشاغل المهمة احيانا يجب التخلي عنها لصالح امور اهم . عندما نظرت الى حالتي الشخصية وجدت الكثير من الامور على الصعيد الشخصي و العائلي و الوظيفي و العملي ...الخ و كل واحد منها يتشعب الى امور فرعية كثيرة جدا ، لذلك كان لزاما علي ان اتنازل عن بعضها و ابدأ بعمليات تبسيط متوالية . مثلا ما يتعلق بالقراءة فقد قمت بالغاء القراءة العامة من الانترنت (ويكيبيديا ، كورا ..الخ) من جدول القراءات اليومي و اكتفيت باستغلال اوقات الفراغ المتقطع في الدوام فقط لهكذا نوعية من القراءة . ايضا تقليص دائرة الاهتمامات المعرفية في القراءة فمثلا الغاء القراءة البرمجية او التقنية بشكل عام . محاولة الاستمرار في قراءة عدد قليل من الكتب الى نهايتها بدلا من الانتقال الى كتب اخرى . الاكتفاء بقراءة الكتب الممتازة و التقليل من قراءة الكتب المتوسطة او الروايات .
هذا و لكن هناك الكثير من المزايا العرضية للتقليل من التقنية منها توفير الوقت الكثير، ازدياد القدرة على القراءة المطولة للكتب ، راحة البال بعدم الحاجة الى مراجعة الجوال بين كل ساعة و اخرى ، و فوائد صحية متعددة تعدادها لا يسع في هذا المقال .

دمتم في الرضا