:: كل المقالات ::

Tue, 13 Dec 2016

أفضل خطب المعرفة

بسم الله الرحمن الرحيم

ان الذي يهتم بالجانب الروحي و يشغله هم تهذيب نفسه و يسعى للحصول على المعرفة لا يجد بدا من التعلم و الاسترشاد و لكل مدرسة طريقتها في تهذيب و تدريب المريد و لكن اسلوب الخطب الوعظية موجود تقريبا في أغلب المدارس و ذلك لقدرة الكلمات التي تخرج من فم المرشد على تنوير قلب المريد اذا فتح هذا الاخير قلبه لقوله تعالى "فإنها لا تعمى الابصار و لكن تعمى القلوب التي في الصدور ". هذه الحقيقة يشير اليها اهل بيت العصمة عليهم السلام كثيرا و في مواطن مختلفة فمثلا :
قال الامام الباقر عليه السلام ذات يوم عندما وعظ جماعة من الشيعة و هم ساهون لاهون " ... ان كلامي لو وقع طرف منه في قلب احدكم لصار ميتا . الا يا اشباحا بلا ارواح و ذبابا بلا مصباح كأنكم خشب مسندة و اصنام مريدة ، الا تأخذون الذهب من الحجر ، الا تقتبسون الضياء من النور الازهر ، الا تأخذون اللؤلؤ من البحر خذوا الكلمة الطيبة ممن قالها و ان لم يعمل بها ... "
و من رسالة الامام ابي محمد الحسن العسكري سلام الله عليه الى اسحاق النيسابوري " ... فبعدا و سحقا لمن رغب عن طاعة الله و لم يقبل مواعظ اوليائه . فقد امركم الله بطاعته و طاعة رسوله و طاعة اولي الامر ، رحم الله ضعفكم و غفلتكم و صبركم على امركم فما اغر الانسان بربه الكريم و لو فهمت الصم الصلاب بعض ما هو في هذا الكتاب لتصدعت قلقا و خوفا من خشية الله و رجوعا الى طاعة الله ..."
و قد ورد عن الحجة عجل الله فرجه الشريف في مطلع زيارة آل ياسين "لا لأمره تعقلون و لا من اوليائه تقبلون حكمة بالغة فما تغن النذر عن قوم لا يؤمنون "
و قد يصل تأثير المواعظ الى اقصاه فيصعق المتلقي كما ورد في خطبة المتقين " ... فصعق همام صعقة كانت نفسه فيها . فقال امير المؤمنين عليه السلام : اما و الله لقد كنت اخافها عليه . ثم قال : أهكذا تصنع المواعظ البالغة بأهلها ؟ "
في المجموعة الثانية من كتاباته يذكر غردجيف ثلاثة مواقف تنتهي بخطب تصف جانبا من جوانب الرحلة الروحية . في الموقف الاول يذكر رحلته الى ايران و فيها يلتقي مع اصحابه بأحد الدراويش و في بداية الامر استخف غردجيف بهذا الدرويش و لكن الدرويش استطاع ان يصدم غردجيف الذي كان وقتها يتبع التعليمات الهندوسية في الرياضة – خصوصا الهاثا يوجا – و بعد ان دمر الدرويش قناعات و ممارسات غردجيف ادرك الاخير انه امام شخصية فذة و قام احد اصحاب غردجيف بسؤال الدرويش عن كيفية سلوك الطريق فأجابه الدرويش بخطبة مطولة ابهرت الحضور و قد وعدنا غردجيف ان يذكرها في المجموعة الثالثة من كتاباته و لكن مع الاسف لم يفعل ذلك.
و كذا فعل غردجيف في موقفين اخرين حيث لاقوا شخصين مميزين احدهما مرتاض و الاخر راهب و قد القيا خطبتين رائعتين بهذا الخصوص ( الاولى عن الرياضة و الاخرى عن الايمان ) و أخر غردجيف ذكر الخطبتين الى المجموعة الثالثة و لم يذكرهما . و قبل فترة بسيطة كان الكلام بيننا و بين مجموعة من الكتاب على الشبكة عن أفضل الخطب الوعظية بخصوص تهذيب النفس و وصف طريق التكامل الروحي . و قد ادلى الكل بدلوه و تم طرح العديد من الخطب الرائعة و كما هو المتوقع رشح الهنود اغنية الرب و لكني لا اتفق معهم فأغنية الرب لا شك في انها تحفة فنية و لكن لا يمكن ان تعتبر من الخطب لانها مكتوبة بأسلوب مختلف اعني الاسلوب القصصي المطول و اعتمادها على اسلوب الحوار بين مجموعة من الاشخاص . في هذا الصدد الافضل ان تقدم اليوجا سوترا الخاصة ببتانجلي لانها مختصرة و يصح ان يقال عنها انها شكل من اشكال الخطب و ان كانت مكتوبة . و هذه بداية اليوجا سوترا :
OM ! here follows instruction in union.Union spirtual consciousness is gained through control of the versatile psychic nature .Then the seer comes to consciousness in his proper nature. Heretofore the seer has been emneshed in the activities of the psychic nature.The psychic activities are five they are either subject or not subject to the five hindrances .
و هكذا في البوذية هناك الكثير من الخطب المنسوبة لبوذا و لغيره من اعلام هذه الديانة و تعتبر الخطبة الاولى لبوذا ملخصا لكل تعاليمه حيث اشار فيها الى الحقائق النبيلة و لكن قد نختصر كل تعاليمه في عبارته الاولى " I teach one thing and one thing only: suffering and the end of suffering" . و كذا في بقية الاديان و المدارس هناك خطب مشهورة و معروفة في هذا الصدد .

اما عندنا في الاسلام فهناك التراث الصوفي فهم من اكثر الكلام في هذه الامور و لكن كل هذه الامور تخبو عندما نقارنها بما يوجد عندنا في المذهب الشيعي . يمكننا ان نقسم الطريق الى المعرفة الى طريقين الاول الطريق النظري و الثاني الطريق العملي و في كليهما يظهر تفوق التراث الشيعي. اما بخصوص الطريق الاول اعني الخطب التي يكون تركيزها على الجانب المعرفي النظري فلا مجال للمقارنة اساسا بين ما وصلنا من تراث اهل البيت عليهم السلام و بين بقية تراث البشرية جمعاء و لو لم تكن الا خطب اميرالمؤمنين علي عليه السلام لكفى بل ادعي انه لو لم يكن هناك القرآن الكريم لكفى بكلام امير المؤمنين اعجازا . خذ مثلا خطبته عليه السلام في اخلاص التوحيد فهل يمكن ان يأتي شخص بمثل هذا الكلام ؟ : " ان اول عبادة الله معرفته و اصل معرفته توحيده و نظام توحيده نفي الصفات عنه لشهادة العقول ان كل صفة و موصوف مخلوق و شهادة كل مخلوق ان له خالقا ليس بصفة و لا موصوف و شهادة كل صفة و موصوف بالاقتران و شهادة الاقتران بالحدث و شهادة الحدث بالامتناع من الازل الممتنع من حدثه ، فليس الله عرف من عرف ذاته و لا له وحد من نهاه و لا به صدق من مثله و لا حقيقته اصاب من شبهه و لا اياه اراد من توهمه و لا له وحد من اكتنهه و لا به آمن من جعل له نهاية .... بتشعيره المشاعر علم ان لا مشعر له و بتجهيره الجواهر علم ان لا جوهر له ...الى اخر كلامه صلوات الله عليه " و خطب اهل البيت عليهم السلام في هذا الباب كثيرة جدا و لكن في المقام اهتمامنا بالجانب الاخر الا و هو الجانب العملي . و في هذا الباب نجد ثروة كبيرة في التراث الذي وصلنا عن اهل البيت عليهم السلام و في اول وهلة قد يتبادر الى الذهن حديث عنوان البصري هذا الرجل الذي كان يتردد على مالك بن انس لسنوات و لكنه لم يقنع بما عند مالك و لم يحصل له الارتواء فتعلق قلبه بأبي عبدالله الصادق عليه السلام و اراد ان يرتشف من نمير علمه . و قد صده الامام في البداية و لكن الرجل توسل الى الله في مسجد رسوله صلى الله عليه و اله و سلم بأن يعطف عليه قلب جعفر بن محمد عليهما السلام فاستجيبت دعوته . و في هذا الحديث يضع الامام عليه السلام خارطة الطريق باختصار و شمولية و اقتبس هذه الفقرة فقط :
قلت : يا أبا عبد الله ما حقيقة العبودية ؟
قال عليه السلام: ثلاثة أشياء : أن لا يرى العبد لنفسه فيما خوله الله ملكا ، لان العبيد لا يكون لهم ملك يرون المال مال الله يضعونه حيث أمرهم الله به ، ولا يدبر العبد لنفسه تدبيرا ، وجملة اشتغاله فيما أمره تعالى به ونهاه عنه ، فإذا لم ير العبد لنفسه فيما خوله الله تعالى ملكا هان عليه الانفاق فيما أمره الله تعالى أن ينفق فيه ، وإذا فوض العبد تدبير نفسه على مدبره هان عليه مصائب الدنيا ، وإذا اشتغل العبد بما أمره الله تعالى ونهاه لا يتفرغ منهما إلى المراء والمباهاة مع الناس ، فإذا أكرم الله العبد بهذه الثلاثة هان عليه الدنيا ، وإبليس ، والخلق ، ولا يطلب الدنيا تكاثرا وتفاخرا ، ولا يطلب ما عند الناس عزا وعلوا ، ولا يدع أيامه باطلا ، فهذا أول درجة التقى ، قال الله تبارك وتعالى : تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا والعاقبة للمتقين.
ثم هناك مثلا خطبة المتقين لأمير المؤمنين عليه السلام التي مطلعها :
اما بعد ، فإن الله سبحانه و تعالى خلق الخلق حين خلقهم غنيا عن طاعتهم آمنا من معصيتهم لانه لا تضره معصية من عصاه و لا تنفعه طاعة من اطاعه ، فقسم بينهم معايشهم و وضعهم من الدنيا مواضعهم . فالمتقون فيها هم اهل الفضائل : منطقهم الصواب و ملبسهم الاقتصاد و مشيهم التواضع . غضوا ابصارهم عما حرم الله عليهم و وقفوا اسماعهم على العلم النافع لهم . نزلت انفسهم منهم في البلاء كالتي نزلت في الرخاء ...
و خطبته في اداب الدنيا و الدين في اربعمائة باب و عهد الامام زين العابدين الى الشيعة و الذي يجب ان يتدارس كل جمعة. و بما اننا لسنا في مقام ذكر كل ما ورد في تراثنا اختم بمقطوعة من موعظة الامام الصادق عليه السلام لعبدالله بن جندب :
... يا ابن جندب الماشي في حاجة أخیه کالساعي بین الصفا والمروة، وقاضي حاجته کالمتشحط بدمه فی سبیل الله یوم بدر وأحد. وما عذب الله أمة إلا عند استهانتهم بحقوق فقراء إخوانهم. یا ابن جندب بلغ معاشر شیعتنا وقل لهم: لا تذهبن بکم المذاهب فو الله لا تنال ولایتنا إلا بالورع والاجتهاد في الدنیا ومواساة الاخوان في الله. ولیس من شیعتنا من یظلم الناس. یا ابن جندب إنما شیعتنا یعرفون بخصال شتى: بالسخاء والبذل للاخوان وبأن یصلوا الخمسین لیلا ونهارا. شیعتنا لا یهرون هریر الکلب ولا یطمعون طمع الغراب ولا یجاورون لنا عدوا ولا یسألون لنا مبغضا ولو ماتوا جوعا. شیعتنا لا یأکلون الجري و لا یمسحون على الخفین ویحافظون على الزوال ولا یشربون مسکرا. قلت: جعلت فداک فأین أطلبهم؟ قال علیه السلام: على رؤوس الجبال وأطراف المدن. وإذا دخلت مدینة فسل عمن لا یجاورهم ولا یجاورونه فذلک مؤمن کما قال الله: " وجاء من أقصى المدینة رجل یسعى " والله لقد کان حبیب النجار وحده ...
و من اراد المزيد يمكنه ان يقرأ امثال نهج البلاغة و تحف العقول و كتاب الجهاد من الوسائل و غيرها.


دمتم في الرضا ،