:: كل المقالات ::

Tue, 13 Dec 2016

عن المطاوعة و مفاضلة بين العلم و العبادة

بسم الله الرحمن الرحيم
لربما تساءلت كما تساءل البعض لماذا من يوصفون بالتطوع - من غير العلماء- عند جميع الطوائف أخلاقهم رديئة أو على الأقل هناك جفاء في تعاملهم مع الغير.
و هذه ليست مبالغة بل واقع مشهود و ملموس حتى أصبح قاعدة و الشاذ هو من يخرج من هذه الملازمة المقيتة. البعض قد أرجع السبب إلى كونه استعلاء من قبل المطوع كونه يرى له أفضلية على غيره من الشباب الغافل ، لكني أرى أن السبب الآخر الذي لا يقل أهمية أيضا أن هذه الحالة تنبع من إحساس المطوع بنقصه و ليس بأفضليته فقط .
فأما الأفضلية فهي مفهومة و واضحة : شخص يرى نفسه أفضل من غيره لأنه بنظره شخص زاهد عابد مهتم بدينه منشغل بعبادته و أذكاره، فيتعالى و ينظر لهم نظرة دونية و يرى أن مجالستهم مضيعة للوقت و أنهم جمع غافل لا تجوز مجالسته إلا من باب الوعظ و الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر .
أما النقص فهو اكثر خفاء فهو من زاوية أن الشخص المطوع في أغلب الاحيان ليس لديه ما يتباهى به فيشبع إنيته فالعالم أو الباحث يستطيع أن يتكلم عن قراءاته و إنجازاته و كتبه و مباحثاته و يحصل بذلك على إرضاء النفس و إعطائها حظها من الفخر و الشعور بالإنجاز و التميز لكن المطوع لا يستطيع أن يتباهى بشيء من أعماله لأنه يعلم أن أعماله ستكون هباء منثورا لو تكلم بها و تفاخر بها و أعلنها لأقرانه . من هنا تظهر مشكلة كبيرة فالرجل أو الشاب محتار لا يستطيع أن يتكلم بإنجازه أمام الناس و لكنا نعلم أن الإنسان ذاتيا و فطريا يحب المدح و الثناء و الاعتراف بإنجازه و المشكلة تتفاقم كثيرا عندما تصل إلى الوالدين و الأقربين فهم أيضا من المفترض أنهم لا يعلمون بإنجازات ابنهم على هذا الصعيد ، حينها من الطبيعي جدا أن يكون الحل هو بإسقاط الغير .
لو أخذنا على سبيل الفرضية ولدين أحدهما مهتم جدا بالتطوع و لكنه ليس لديه إنجاز دنيوي يذكر ، و أما الآخر ناجح جدا على الصعيد العلمي أو المادي مثلا و افترضنا أن صار حوار عن الإنجازات فلن يستطيع أن يقول المطوع و لكني أنجزت كذا و كذا و هذا ما سيجعله إراديا او لا إراديا يقلل من إنجازات أخيه بكون هذا الإنجاز العلمي دنيوي قليل الأهمية أو ان هذا الإنجاز المادي ليس مهما و أنه انشغال بالدنيا و حطامها .. لأنه بالتقليل من شأن إنجازات الآخرين يتحصل المطوع على القليل من إرضاء النفس الشيء الذي ينقصه جدا و هذه الحالة ليست بالضرورة نابعة من الحسد .
و هذا الأمر ليس شيئا محصورا على موضوعنا بل إن هذه قاعدة معروفة ان الشخص الذي لا يملك شيئا معينا يحاربه و يقلل من شأنه و منه المثل المشهور : الي ما يطول العنب حامض عنه يقول ، و قولهم :الناس أعداء ما جهلوا.
فالعابد يقول ما قيمة العلم بدون عمل و العالم يقول ما قيمة العبادة بدون علم و الإنسان الغير ملتزم يقول الدين الأخلاق و الفقير يقول عن الغني أنه في وحل الأموال القذرة و الغني يقول المال مقياس النجاح .. فلننهي هذه الفقرة اذا و نخلص إلى أن الانسان يفخم ما عنده و يقلل من أهمية ما ليس عنده، و لأن المطوع لا يستطيع أن يفخم ما عنده علنا فهو يشدد على التقليل مما عند الغير .
الآن الكثير يفضل العلم على العبادة و خاصة في زماننا هذا و لربما استدل بالأحاديث الكثيرة التي ظاهرها يفضل العالم على العابد كـ (فضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر النجوم ليلة البدر) و الأحاديث الواردة في هذا المعنى مستفيضة لدرجة لا يمكن حصرها.
ولكن هل ننسى أن العلم بدون عمل لا يعتبر تحركا في حد ذاته فهو كمن يعلم الطريق إلى مقصده ولكنه واقف في مكانه لا يسير فهذا لن يصل إلى مقصده ولو وقف ألف سنة. قولهم(العلم يدعو للعمل فإن أجابه وإلا ارتحل) فلربما المسكين يرشد غيره فيصل وهو واقف مكانه.
أيضا ، من جهة أخرى قد وردت أحاديث في تفضيل التفكر على العبادة و لكن السؤال ما هذا التفكر ؟ هل هي احلام اليقظة مثلا؟ لا، هذا التفكر هو ما ينتهي إلى العبادة و إلا ما قيمته ؟… روي أن أحد العرفاء كان له ابن فجاءه يوقظه لصلاة الليل او الفجر و لكن الابن لم يتحرك فأعاد عليه فقال يا أبي ألا تقولون أن تفكر ساعة خير من عبادة سنة فها أنا أتفكر فقال الأب لا خير في تفكر لا ينتهي بك إلى القيام للصلاة .
إذا العلم و التفكر الممدوح هو ما يدعو إلى الاستكثار من العبادة و العلم بشرائطها و أحكامها و أوقاتها و تحسين جودتها و دعوة الناس و تعليمهم، و أما العبادة المفضولة في الأحاديث فهي العبادة التي تمنع من التعلم و التطور الذاتي و الانشغال بقضاء حوائج الناس ، وحضور مجالس البر و صلة الرحم فهذه العبادة الساهية التي تقوقع الإنسان و تكون مبنية على جهل بدلا من علم.
بعبارة أخرى لا يوجد عالم غير عابد و لا عابد غير عالم ، نعم من باب التساهل في الاصطلاح نقول عالم على شخص له حظ في العلم و ليس له حظ في العبادة و من باب التساهل أيضا نقول على شخص عابد و هو جاهل. و إلا حقيقة لا يصح أن يقال عن شخص عابد و هو يأتي بعباداته هكذا كيفما جاء جهلا بأحكامها و أشراطها فلعلها باطلة أساسا و ابتداء ، و كيف يسمى عالم عالما و علمه لا يدعوه إلى نافلة و عمل و لكن مع الأسف نعم عندنا علماء في هذه الأيام منطبق عليهم قوله تعالى : لم تقولون ما لا تفعلون ، و قد يكون العلم وبالا و حجابا قوله تعالى: مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفارا. و ويل لمن يكون العلم خصمه، قولهم: يغفر للجاهل سبعون ذنبا قبل أن يغفر للعالم ذنب واحد. ثم تساؤل مهم أخير هل العلم الممدوح هو هذا العلم المعروف المأخوذ من الجدل و المراء أم هو شيء أعظم و موهبة إلهية و هو قول الصادق عليه السلام :
يَا أَبَا عَبْدِ اللَهِ! لَيْسَ العِلْمُ بِالتَّعَلُّمِ، إنَّمَا هُوَ نُورٌ يَقَعُ فِي‌ قَلْبِ مَنْ يُرِيدُ اللَهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَي‌ أَنْ يَهْدِيَهُ؛ فَإنْ أَرَدْتَ العِلْمَ فَاطْلُبْ أَوَّلاً فِي‌ نَفْسِكَ حَقِيقَةَ العُبُودِيَّةِ، وَاطْلُبِ العِلْمَ بِاسْتِعْمَالِهِ، وَاسْتَفْهِمِ اللَهَ يُفْهِمْكَ!
من هذا الحديث العظيم نرى أن هذا العلم يؤخذ بطريقة أقرب للعبادة و التقوى و الاستعمال منها إلى النظرية و التعلم. يؤيد هذا الحديث قوله تعالى :و اتقوا الله و يعلمكم الله. و قولهم: من عمل بما علم ، اورثه الله علم ما لم يعلم. و قولهم : من عمل بما علم كفي ما لم يعلم.
لو رجعنا بالتاريخ إلى الوراء فالعبادة كانت أسهل من الانشغال بتحصيل العلم و ذلك راجع إلى عاملين أساسيين:
الأول من جهة العلم فتحصيله في ذلك الوقت كان أصعب بمراحل فقلة العلماء و صعوبة السفر و بعد الشقة من جهة و من جهة أخرى عدم وجود تلك الجدوى الدنيوية المرجوة من تحصيل العلم على المستوى الوظيفي.
و الثاني من جهة العبادة ففي ذلك الزمان قلة المشاغل و الالتزامات و طول فراغ الوقت من ناحية و سهولة الإعراض عن متاع الدنيا المتواضع حينها من جهة أخرى.
مثاله الصوم أليس أكثر سهولة بالنسبة لمن بالكاد يجد ما يأكله ؟
لكن في زماننا الغالب ان العبادة أصعب من العلم لأن تحصيل العلم ينتهي بالضرورة إلى فوائد دنيوية و اجتماعية فالعلم الديني يعطيك وجاهة اجتماعية و العلم الدنيوي يعطيك وظيفة مرموقة و أما العلم الاختياري أعني ما نتعلمه اختيارا و ليس في مجال تخصصنا فهو بطبيعة الحال أسهل على النفس لأنه نابع من رغبة داخلية فلأنني أحب البرمجة مثلا أقرأ فيها و لأنني أحب الأدب أقرأ و ألتذ به و هلم جرا .
أما العبادة لا تطلب لأجل فوائد دنيوية و هي صعبة على النفس مخالفة لرغباتها فمن منا يستلذ بقطع نومه للقيام للصلاة؟ و من منا يطوي ليله في قيام فلا ينام إلا غلبة؟ و من منا يستلذ بالوضوء في الليل البارد و بالصوم في النهار الحار؟ و من منا يستلذ بورد يومي يأخذ ساعة و ساعات من يومنا المزحوم بمشاغل الدنيا و الارتباطات؟ و من منا يستلذ في أن يكون يومه مراقبة لاوقات الأذكار المخصوصة في كل ساعة من النهار ؟ و من منا يستلذ في أن يكون بكاءً في كل ليلة ؟ و من منا يستلذ بمراقبة قلبه طوال يومه منتبه لكل داخل و خارج ؟ و من منا يستلذ بمراقبة لسانه و أذنه و عينه كل لحظة في كل مكان؟ لا أتكلم عن القيام ببعض هذه الأعمال في يوم توبة و حماس و اندفاع أو في فترة زيارة معصوم أو موسم حج و انما أتكلم عن أن تقضي كل حياتك في هذه الحالة لا تستثني و لا تتساهل في يوم واحد في سفر أو حضر ؟ إن هذا شيء عظيم ، إن هذا لشيء يراد .
لذلك ورد ان هذا الدين متين و يجب التوغل فيه بلطف و لكن المشكلة أننا لا نتوغل و لكننا نلتزم باللطف فنتلطف بالنفس كي لا تتعب فالليلة استثناء لأنني سهران و غدا الفجر سأذهب لدوام طويل و الليلة الأخرى استثناء لأنني مسافر و الأخرى لأنني متعب و الأخرى لأنه لدي اختبارات و الأخرى لأنني عملت اوفرتايم و الأخرى لأنه لدينا مناسبة عائلية و الأخرى و الأخريات …
فهذا هو التسويف و أيضا هناك الهمة فمنا من يرضى بالفرائض و يقول هذا كثير و منا من يرفعه إلى صلاة الليل و يقول هذا كثير و منا من يأتي بـالـ 51 ركعة المعروفة و يقول هذا كثير و منا من يأتي بـ 100 ركعة و يقول هذا كثير. و هكذا مع القرآن الكريم فمنا من يختمه في رمضان فقط و منا من يختمه كل شهر و منا من يختمه كل أسبوع و منا من يختمه كل ثلاث .. و على هذا كل أصناف العبادة.
المشكلة في العبادة أنه لا يوجد حل وسط فلا يمكنك أن تقف و تأخذ استراحة لأنك إذا لم تتقدم فلا تعتقد أنك واقف بل إنك ترجع القهقرى، هذا شيء مفروغ منه في أن التساهل بالإتيان بعمل ما يؤدي إلى الحرمان منه و لو إلى وقت معين . ربما تستمر على عمل معين لمدة شهر كامل و لكن تتساهل في ليلة و تغلب في الأخرى فتحرم الثالثة .. لذلك العمل القليل المستمر أفضل من الكثير المنقطع .
من الأمور التي تجعل من العبادة أكثر صعوبة خاصة في زماننا أنها تحتاج إلى إخلاص تام و توجه ، و هذا شيء كبير على النفس قوله تعالى :إن ناشئة الليل هي أشد وطئا و أقوم قيلا.فأما الإخلاص فهو معيار القرب الذي نفقده في زمن الوجاهة و أما التوجه التام فثقيل على النفس خاصة في زمن تلعب في العقل عشرات بل مئات الخواطر ، و لأننا لا نعرف كيف نوقف هذه الأفكار و لأننا لا نخصص ساعة للتأمل و تهدئة هذه الموجات المتتابعة من الأفكار، نجد أن هذه الأفكار و الخواطر ترقص بإغواء خلال الصلاة أو الدعاء فكما قال الغربي: تعلمنا علم الحركة و لكننا لم نتعلم علم السكون!. فنحن لا نصلي و لا نأكل و لا نشرب و لكننا في لهث وراء أفكار متتابعة متتالية في عقل مضطرب لا يعرف الاستقرار. ألا بذكر الله تطمئن القلوب ، فإذا كان قلبك لا يصل إلى مرحلة الاطمئنان فطبيعي أنك في حقيقة الأمر لا تذكر الله و لكن يبدو لك أنك تذكر الله ! كما من يصلي و لا تنهاه صلاته عن الفحشاء و المنكر يخيل له أنه يصلي ؟! و كما مر في الاحاديث السالفة العبادة و التقوى متلازمة مع الحصول على العلم ، و بما اننا لا نحصل على علم نعرف ان الخلل هو في عباداتنا و اعمالنا.
نعود إلى الإخلاص فهو مشكلة في حقيقة الأمر فماذا لو كان حالنا كحال ذلك الرجل الذي اكتشف أنه كان يخشع في صلاته من أجل كلب اعتقد أنه رجل يتابعه؟
عمل سنوات و سنوات ممكن ان يذهب ادراج الرياح في لحظات و لان الاعمال بخواتيمها ، و لأن الإنسان يحب دائما أن يكون في منطقة السلامة فتوجد بعض المنطقية في تخوف البعض من هذا الأمر فيكتفي بأن يرجو أن يكون من أصحاب اليمين و لا يحاول أن يكون من السابقين خوفا من أن يرهق نفسه في عبادة قد تخسره دنياه و لا تنال آخرته -كم من صائم ليس له من صيامه غير الجوع و العطش-، و -ما اكثر الضجيج و اقل الحجيج- فيفضل أن يستمتع بدنياه مع الاكتفاء بالإتيان بالواجب و ترك المحرم على أمل أن ينال سعادة مضمونة في الدنيا و تدركه شفاعة في الآخرة.
دمتم في الرضا ،