:: كل المقالات ::

Tue, 13 Dec 2016

نظر العارف (1) : ما الحب الا للحبيب الاول

بسم الله الرحمن الرحيم

أبيات الشاهد :
نَقِّلْ فُؤادَكَ حَيثُ شِئتَ مِن الهَوى -- ما الحُبُّ إلاّ للحَبيبِ الأوَّلِ
كَمْ مَنزِلٍ في الأرضِ يألفُهُ الفَتى -- وحَنينُهُ أبداً لأوَّلِ مَنزِلِ

الشاعر :
أَبو تَمّام حبيب بن أوس بن الحارث الطائي (188 - 231 هـ) ، غني التعريف و من لا يعرفه يحتاج ان يقرأ عنه اولا ثم يرجع لقراءة هذا الموضوع .

المعنى السطحي :
و هو ما يفهم من ظاهر الابيات فلا يوجد هناك كثير من التعقيد او الالفاظ الغريبة . فالشاعر يقول ان الانسان مهما تنقل في الحب فلن يمكنه نسيان الحب الاول و يستدل على ذلك بالحنين الى المنزل الاول و كأنه اشارة الى ذلك النوع من الحنين الذي نعيشه تجاه ذكريات الطفولة فمهما عشنا من تجارب سعيدة في الغالب اننا سنبقى نردد ان الزمان الماضي كان أجمل .
هذا المعنى هو ما يفهمه الناس من الابيات و الدليل على ذلك ان هناك من رد على الشاعر عندما فهم ابياته بهذا المعنى فقال احدهم :
نَقِّلْ فُؤادَكَ حَيثُ شِئتَ فَلَنْ تَرى -- كَهوىً جَديدٍ أو كَوَجهٍ مُقبِلِ
عِشقي لمنزلي الذي استحدَثتُهُ -- أما الذي ولّى فَليسِ بِمَنزلي
و هذا ليس من العشق في شيء و انما هو تبرير لمن شغلهم الجري خلف العيون الساحرات ، و هو شيء مذموم عند مختلف الاديان و الاعراف . قد يقول قائل ان الشاعر يريد تفضيل الجديد فقط و لا يعني الذي ذهبت اليه ؟ لكن كلمة (نَقِّلْ) تفيد التعددية و يؤيد هذا المعنى "حيث شئت". اما كلامه عن المنزل الجديد فسيأتي الرد عليه عندما نذكر رؤية العارف في الموضوع.
و قال آخر :
دَع حُبَّ أوَّلِ مَن كُلِّفتَ بِحُبِهِ -- ما الحبُّ إلا للحَبيبِ الآخِرِ
ما قَد تَولّى لا إرجاعَ لِطِيبِهِ -- هَل غائِبُ اللذاتِ مِثلُ الحاضرِ؟
و اما هذا الاخر فهو اسوء من الاول فقد حصر اللذات باللذات الجسدية في قوله هل غائب اللذات مثل الحاضر ، فاللذة الغائبة هنا ليست سوى اللذة الجسدية و الا اللذات العاطفية و الروحية و المعنوية فلا تغيب بغياب الحبيب بل ربما تزداد .
و اسوء من الاثنين قول الثالث - فهو مذبذب لا الى هؤلاء و لا الى هؤلاء - :
الحُبُّ للمَحبوبِ ساعةَ حُبِّهِ -- ما الحبّ فيه لآخِرٍ ولأوَّلِ

اما نظرة العارف ، فنقول :
الحبيب الاول المقصود هنا هو الله سبحانه و تعالى ، فحبه هو الحب الحقيقي الذي منه ينبثق كل حب. حب الله سبحانه و تعالى هو الحب الذي يتمتع بميزة الدوام و الا بقية انواع الحب يطرأ عليها الزوال و التغير . و لماذا يطرأ عليها الزوال و التغير ؟ فلأن المحبوب فيها متغير و زائل و لكن الله سبحانه و تعالى هو الذي لا يطرأ عليه تغير. فالشاعر يقول مهما بحث العاشق عن محبوب فلن يرى افضل و اكمل من المعشوق الاول . فالانسان الفطن هو من يعرف ان هذا العشق الفاني انما هو رشفة نتعرف من خلالها على ذلك الحب الحقيقي ، فاذا كان اصحاب العشق المجازي يسهرون الليالي و يهلكهم العشق فلا يأكلون و لا يشربون فما بالك بمن ادرك العشق الحقيقي ؟!
و ما يؤيد هذا المعنى الذي ذهبنا اليه قول الشاعر في البيت الثاني :
كَمْ مَنزِلٍ في الأرضِ يألفُهُ الفَتى -- وحَنينُهُ أبداً لأوَّلِ مَنزِلِ
فقد ورد هذا المعنى في الاخبار فالمنزل المقصود هنا هو وطن الروح قبل هذه النشأة و منه اخذ ابن سينا قوله :
هبطت اليك من المحل الارفع … ورقاء ذات تعزز و تمنع
وصلت على كره اليك و ربما … كرهت فراقك و هي ذات تفجع
انفت و ما الفت فلما واصلت .. انست مجاورة الخراب البلقع
و اظنها نسيت عهودا بالحمى … و منازلا بفراقها لم تقنع
فابن سينا يشير جليا الى المنازل المقصودة في اخر هذه الابيات و يؤكد المعنى الذي اخترناه .
لذلك لا بأس من قول الرابع :
قَلبي رَهينٌ بالهوى المُقتَبِل -- فالوَيلُ لي في الحبِّ إنْ لَم أعدل
أنا مُبتَلىً بِبَليتينِ مِن الهوى -- شَوقٌ إلى الثاني وذِكرُ الأوَّل
فيمكن تفسيره على انه قسّم الهوى الى الاول و الثاني كما اسلفنا و هو في ابتلاء من حيث انه في الدنيا يتوق الى الحب المجازي لكثرة المغريات و لكنه يعود فيذكر الحب الاول . فالروح كما قال ابن سينا مع الوقت انست هذا الخراب البلقع و لكنها تبقى في حنين الى وطنها و الى محبوبها الاول كلما رأت ما يذكرها بأصلها او بدناءة الدنيا التي هي فيها . لذلك قول الشاعر :
عِشقي لمنزلي الذي استحدَثتُهُ -- أما الذي ولّى فَليسِ بِمَنزلي
فهو منطق الذي شغل بوطنه الجديد كليا " فهم في غفلة " فنسي أصله الا ان تشمله الكريمة " لولا ان تداركه نعمة من ربه ".

دمتم في الرضا ،