:: كل المقالات ::

Tue, 05 Sep 2017

على مشارف الانتحار (2)

بسم الله الرحمن الرحيم

تكلمنا في الجزء الاول عن الفيلسوف الكبير سينكا و المفكر الامريكي المعاصر ديفد فوستر والاس و قلنا ان الجامع بين الاثنين شيء اكثر من مجرد النهاية بالانتحار .لنستهل الكلام في هذا الجزء عن فيلسوف بريطاني معاصر و من حسن الحظ انه لا يزال على قيد الحياة بل يبدو انه يستمتع بحياته بشكل جيد ،انه الفيلسوف و المفكر و المخرج الوثائقي الآن ديبوتن . بداية لنقل ان ديبوتن ليس فيلسوفا تقليديا و انما كما يسميه البعض "بوب فيلسوفر" اي فيلسوف شعبي ان صح التعبير، بعبارة اخرى انه ليس من اولئك الفلاسفة الاكاديميين الذين يقضون كل حياتهم بين ارفف المكتبات بل ترك دراسة الدكتوراة في الفلسفة الفرنسية لينشغل بالتأليف و الاخراج الوثائقي او لنقل انه يحاول ان ينزل الفلسفة من نظريتها المحضة الى الواقعية التطبيقية في الشارع العام . و هو بهذا العمل و ان كان استقطب الجمهور العام الا انه يتحمل انتقادات اقرانه الاكاديميين و هذا ما حصل لغيره من امثال سلوفاك جيجك الفيلسوف المشهور و لكن حظا موفقا في ان تقرأ اعمال "لاكان" بدون قراءة شروح جيجيك . نعم فالحقيقة ان هناك هوة كبيرة بين اعمال الفلاسفة الكبار و بين الطبقة المثقفة خاصة في الفلسفات المتأخرة من مثل اعمال هيدجر و دريدا فالقارئ تحت رحمة شرح ما يسمون بالفلاسفة الشعبيين ! على كل حال عودة الى فيلسوفنا فقد قام مشكورا بمشاريع جبارة لتثقيف عامة الناس من خلال تطبيق مبادئ الفلسفة و نظرياتها و عرضها بشكل سهل و ميسر من خلال طرق مختلفة منها مشروع بريد الفيلسوف . لقد كان ديبوتن يدرس الاعلام و بشكل خاص الاخبار و التي نتعامل معها بشكل او بآخر و قد اخرج كتابا يشرح ما توصل اليه من ايجابيات و سلبيات للاعلام المعاصر و لكن المميز في الموضوع انه انشأ موقعا بعنوان بريد الفيلسوف - مستوحى من الـ dailymail الموقع الاخباري المشهور- و قد قام و لمدة سنة في هذا الموقع باستعراض الاخبار كما لو كان كتاب الاخبار فلاسفة بعبارة اخرى ماذا لو كنا نسمع الاخبار ليس كما تريد الشركات الاعلامية التجارية بل كما يراها الفيلسوف فهو في هذه الحالة شابه افلاطون حين تخيل جمهوريته التي يحكمها فيلسوف .
كل هذا الكلام كان استطرادا فما يهمنا هنا هو مشروعه الاخر و المعروف بمدرسة الحياة ففي هذا المشروع يحاول ديبوتن ان ينشئ مدرسة او جامعة ليس همها التعليم التقليدي المتثمل بتخزين اكبر قدر من المعلومات بل التعليم العاطفي الذكي او بعبارة اخرى ما لا يدرس في المدارس ! طبعا من ينظر الى الطريقة التعليمية و مناهجها يدرك بكل يسر نقاط الضعف فيها فهي ليست الا تلقينا للمعلومات بحيث يكون الشخص في النهاية مؤهلا ليشغل وظيفة معينة يقضي فيها ما تبقى من عمره. لكن ماذا عن الامور الاساسية في الحياة ؟ في المدارس و الجامعات لا توجد اجوبة لاسئلة اكثر الحاحا من مثل من انا ؟ ما غايتي في الحياة ؟ كيف نحب ؟ لماذا نعمل ؟ ماذا نعمل ؟ ما هو الانجاز ؟ لماذا ننجز اساسا ؟ ما هي علاقة الفرد بالمجتمع ؟ ماذا يمكن ان نتعلم من الفن ؟ كيف نتعامل مع العواطف من اكتئاب ، غضب ، حسد ... الخ ؟ اعتقد ان الفكرة وصلت اليك ايها القارئ الكريم فنحن نرسل اطفالنا الى المدارس على امل ان كل شيء سيكون على ما يرام و لم نعلمهم كيف يتعاملوا مع ابسط المتطلبات . مثال بسيط هو الحسد الذي هو نتاج طبيعي لبيئة المدرسة المختلطة و التي تجمع بين كل اطياف المجتمع من فقيرها الى غنيها ، فنرى ان الاطفال يمكن ان يقضوا سنوات متطاولة و لم يعرفوا كيف يتعاملوا مع مشاعر الحسد بل انه ربما لم يخطر على باله ان ما يشعر به الان هو عاطفة قوية تدعى بالحسد فمن يكون هذا حاله كيف يتوقع منه ان يتعامل مع هذه العواطف و ان يوجهها التوجيه السليم . حقيقة نحن كآباء و المدارس كمنشئات تعليمية نجني على الاطفال بارسالهم الى الحياة هكذا كيف ما كان و من ثم لا يحق لنا ان نتذمر من احصائيات الطلاق ، الاكتئاب ، الانتحار ، الاعمال العداونية ، الارق ... الخ . اممم الارق ، ماذا عن الارق ؟ انا شخصيا من الذين لديهم علاقة وطيدة بالارق فهو معي منذ سنوات لم اعد اذكر بدايتها و اعرف ماذا يعني الارق حقا . لكن الارق كما كل المشاكل يمكن ان تتعامل معه و تطوعه لصالحك و ان كان احيانا يطغى و يساعد على الشعور بالاكتئاب و لكن هذا الاخير ايضا يمكن التعامل معه و ان كان صعب المحال. على كل حال ديبوتن و فريقه في مشروعهم الجبار هذا يضعون مقالات مختصرة و على الجرح في ابواب مهمة جدا من حياة كل انسان وزعت على هذا الشكل :
·الرأسمالية : ايجابيات الرأسمالية ، الاستهلاكية ، المكانة الاجتماعية ، الاعلام ، المدينة الفاضلة .
·العمل : البحث عن العمل ، المهنة الخطأ ، متع العمل ، آلام العمل .
·العلاقات : الرومانسية ، الاختلاف ، الجنس ، حلاوة الاطفال ، مرارة الاطفال ، البلوغ .
·النفس : الهدوء ، معرفة النفس ، قيم الشخصية ، المزاج ، المهارات العاطفية ، الثقة .
·الثقافة : الاسترخاء ، الفن ، الطعام ، السفر ، التصميم .
·المنهج : الفلسفة ، النظرية السياسية ، الفلسفة الشرقية ، علم الاجتماع ، العلاج النفسي ، الادب .
طبعا تحت كل باب من هذه الابواب تندرج مقالات و مواضيع مهمة و تمس الحياة اليومية بشكل مباشر من مثل تأثير الاعلام على حياة الفرد ، الموضة، الادمان و ما الى ذلك. في النتيجة هي دورة للنمو العاطفي الذكي و اكتساب مهارات تساعد على تكوين الشخصية الواعية او ان شئت قل كما يقول القدماء دورة في الحكمة المدنية .
و ليس ديبتون وحده في هذا المضمار فالدكتور الهي القمشئي حمل على عاتقه مهمة تثقيف المجمتع الايراني بل و العالمي الى حد ما و ذلك من خلال الكتب و المحاضرات و الملتقيات الكثيرة التي كان و لا يزال يعقدها ليرفع من ذوق المجتمع و يعرفهم على بدائل اخرى عن نمط الحياة الرأسمالي الذي نعيشه حاليا. اعتقد ان المجتمعات بشكل عام قد ضاقت ذرعا بهذه الحياة المادية الكئيبة و بهذه اللذات المنقطعة و لديها اهتمام كبير بفن و ادب و حياة اخرى و لكن يبدو ان الاغلبية لا يستطيع ان ينظر خارج دائرة المجتمع و يرى البدائل الاخرى فهو لا يعلم بوجودها اصلا في اغلب الاحيان . و فعلا من الصعوبة بمكان ان يعمل الانسان باتجاه قيم و اهداف تعاكس المتعارف و المتسالم عليه في المجتمع . و تتضاعف الصعوبة في مواجهة المجتمع عندما يقوم المجتمع بدعم قيمه من خلال تطويع الايات و الاحاديث بحيث يبدو ان هذه القيم هي فعلا ليست فقط مسلمات عقلية بديهية بل و مدعومة شرعا .
و يبقى السؤال لماذا نبقى نعاني ؟ لماذا علينا ان نتعلم بالطريقة الصعبة ؟ التعلم بالطريقة الصعبة قد يكون مجديا في تحصيل العلم و لكن في ميدان الحياة قد تكون تكلفته باهظة الثمن و لا يمكن تلافي الخسائر . قرأت منذ زمن بعيد مقالة كان يدعو الكاتب فيها الى التعلم بالطريقة الصعبة اي بدلا من البدء من الكراريس الميسرة نشرع مباشرة في دراسة الامهات من الكتب و هذه الطريقة و ان كانت مجدية في احيان كثيرة خاصة لمن عندهم ذهن وقاد و لا يستسلمون عند ظهور اول امارات الفشل في فهم النص الا انها قليلا ما تؤتي الثمار المتوقعة الا ان يكون معك استاذ حاذق يأخذ بيدك في كشف المعضلات . و من الذين استخدموا هذا الاسلوب في الكتابة مبرمج مشهور اسمه "زد شو" قرأت له كتابا يشرح فيه لغة البرمجة سي بشكل مختلف كليا فهو منذ البداية بدلا من ان يعطيك الاساسيات يزج بك في بناء البرامج و تصيد الثغرات و يتركك وحيدا تبحث عن الحلول في طيات التوثيقات و صفحات الانترنت . اعتقد ان اسلوبه اشبه بمن تاتيه ليعلمك السباحة فيرمي بك مباشرة في وسط البركة فاما ان تنقذ نفسك او تغرق و تكون نهايتك مؤسفة . حسنا ربما في البرمجة لن تكون النهاية مؤسفة فيمكنك دائما ان تبدا مع كتاب اخر و لكن هذا مغزى كلامي في ان اسلوب التعلم بالطريقة الصعبة الذي نتبعه مع انفسنا و ابنائنا اسلوب غير مجدي و ينتهي بأمور نأسف عليها ان عاجلا او اجلا .
في النهاية ان الجامع بين سنكا و والاس و ديبتون هو البحث عن معنى الحياة الحقيقي وسط ضوضاء التمدن و الحضارة .

دمتم في الرضا ،