:: كل المقالات ::

Tue, 13 Dec 2016

عن الافلام كمصدر للثقافة الشخصية

بسم الله الرحمن الرحيم
في مجتمعنا ينظر الى متابعي الافلام بنظرة دونية ، فالاشخاص المتدينون يرون ان هذه معصية يجب الترفع عنها و قد يقدح في تقواك عندما يشتهر عنك هذا الامر . البعض الاخر و خاصة من المثقفين ينظر اليها بأنها مجرد مضيعة للوقت و يجب استبدالها بانشطة اكثر فائدة مثل القراءة.
هذا الاعتقاد صحيح في غالب الامر لهذه الاسباب :
1- كون اكثر الافلام مجرد افلام تجارية.
2- كون اكثر المتابعين مجرد متابعين لقضاء الوقت و المتعة.
3- كون اكثر المتابعين مدمنين يقضون ساعات متواصلة على مشاهدة الافلام.
و لكن في الجهة المقابلة هناك حالات يكون فيها الوضع هكذا:
1- الافلام فنية جادة و راقية ، و قد قيل ان من اروع الفن صناعة السينما لانها تجمع كل الفنون من كتابة و موسيقى و صورة و غيرها.
2- المتابعون لا يشاهدون الفيلم لاجل الفيلم او لاضاعة الوقت و انما ينظرون له نظرة نقدية و يخرجون بفوائد.
3- المتابعون ليسوا مدمنين على الافلام بشكل يؤثر على علاقاتهم الشخصية و انشطتهم الاجتماعية.
يتضح من الحالتين العامتين اعلاه ان هناك فرق شاسع بين من يشاهدون الافلام. فقد تصل الحالة من الانحطاط بالشخص الى مشاهدة الافلام من اجل الاستمتاع بأجساد النساء و الرقص و قد تكون الحالة على جهة مقابلة كليا حيث المتابع يدرس الفيلم و كأنه محاضرة او رواية يستخرج منها فوائد مباشرة او خفية بين الاسطر. اذا كلامنا هنا ليس عن الافلام الساقطة و لا عن الافلام التي تشاهد لاجل اضاعة الوقت فهذه لا تحتاج الى شرح او تفصيل فما اكثر الافلام الهابطة و ما اكثر من يستأنس بها.
كلامي عن الافلام التي فعلا تستأهل مسمى " فيلم " ، هذه الافلام التي لا تقل عن قراءة رواية في الفائدة بل تتعدى الى ان تقارن بكتب في احيان اخرى.
اذا هل يمكن ان تكون الافلام مصدرا للثقافة الشخصية ؟ نعم يمكن ذلك فكما ان ليس كل كتاب جيد و ليس كل كتاب يستأهل القراءة و رب كتاب قراءته تضر اكثر من ان تنفع فكذا الحال في الافلام .
الكاتب الشهير ستيفن كينج صاحب روايات الرعب الشهيرة التي تحقق ارقاما قياسية في مبيعاتها و تعتبر فئة من الادب في حد ذاتها، لم يتسن لي قراءة رواياته الا واحدة منها و لكن لو سألني احد عن ستيفن كينج و اعماله لاجبته بالتفصيل الممل و بما تتميز اعماله و ما يعيبها . المسألة هنا انني لا املك الكثير من الوقت كي اقرا رواياته الطويلة و لكن بين الفينة و الاخرى اجد تسعين دقيقة من يومي اقضيها في مشاهدة احد الافلام المقتبسة عن رواياته كالنافذة و الشيء و "هي" و مقبرة الحيوانات الاليفة و اسطورة اعماله "الاشراق".
قد تتفاوت درجة الاخلاص للرواية الاصلية في كل عمل و لكن الحس العام يبقى ثابتا.الافلام اذاً تقدم كل عناصر الرواية المميزة من حبكة و تطور للشخصيات و مونولوج .
الافلام تسمح لك كما في الكتب ان ترى الدنيا بمنظار متفاوت حسب رؤى و فلسفات مختلفة . في فيلم " هنري بول كان هنا " يتقمص الممثل لوك ويلسن شخصية الانسان الذي فقد ايمانه بالله بعد ان اصيب بالمرض الخبيث و بدا مصرا على تجاهل كل الايات التي تدعوه الى الرجوع الى الايمان بالمسيح و بالعذراء. يوافقه على هذا الطرح فيلم "الطقوس" الذي يرافق حياة طفل مشكك بوجود الله لانه فقد والدته و هو صغير ليخوض معركة الايمان بالشيطان . هذه المعركة بين الايمان و الكفر و بين التصديق بوجود الغيب و بين التفسير المادي للاشياء يبلغ ذروته في فيلم " طرد الارواح : ايميلي روز " حيث نعيش مناظرة في المحكمة بين المحامي الذي يريد ان يثبت انه لا يوجد شيء اسمه ارواح شريرة و لا شيطان و بين محامية تريد الدفاع عن القس بإثبات ان المشكلة لم تكن مشكلة نفسية .
في هذا الفيلم تأخذنا هذه المناظرة بين مد و جزر تارة نؤمن بأن الفتاة كانت ممسوسة بالادلة العقلية و العلمية حتى و تارة نرفض فكرة وجود هذا التفسير الغريب و نضحك على سذاجته فالمسألة لا تعدو انها فتاة كانت تعاني مشاكل نفسية و اضطرابات جسدية.
هذه المسائل الجدلية و بعض الاسئلة الكبيرة تطرح من زوايا مختلفة في جلسة النقاش الطويلة بفيلم " نادي العباقرة " .
روايات دان براون و اجاثا كريستي و السير ارثر كونان دويل لقت طريقها الى السينما مجسدة لنا شارلوك هولمز و هيركول بوارو في رحلة البحث عن الحقيقة و تتمتع هذه الافلام بالحبكة المتقنة و التطوير العميق للشخصيات خلال دقائق الفيلم الـ 90. فيلم "الدليل" يحاول مجاراة روايات اجاثا كريستي مع اضفاء النهاية المتعددة و هي تختلف عن النهاية المفتوحة المشهورة في كثير من الافلام مثل "الجزيرة المقفلة".
يقول احد علماء التاريخ "لقد اخترت هذا التخصص كي تتاح لي فرصة التعرف و الصداقة مع افضل الرجال على مر التاريخ". الافلام بدورها مثل الكتب تتيح لك فرصة التعرف على حياة العظماء و المشاهير من كل الاطياف و الاشكال نابليون ، هتلر ، شكسبير ، تسلا ، اديسون ، اينشتاين ، رامبرانت ، دافنتشي ، بوذا …الخ.
مع الافلام يمكن ان تذهب في جولة الى متاحف امريكا "ليلة في المتحف 1 و 2" او يمكن ان تشاهد كيف تم بناء الاهرامات و سور الصين العظيم. تتعرف اكثر على ويلات الحرب العالمية و تتعاطف مع ضحاياها "السقوط" ، "قائمة شندلر". مع الافلام يمكنك ان تعيش ليلة من الارق "انسومينيا" ، او ان تعيش الهلوسة " الميكانيكي" ..
يمكن ان تكون راهبا و تعيش رحلة البحث عن الحقيقة "زن" او ان تكون عبقري رياضيات و لكن مختلا نفسيا "العقل الجميل" و "Pi".
من خلال الشاشة العريضة فقط يمكنك ان تشاهد تفسير اكيرا كوروساوا لرائعة شكبير "الملك لير" من خلال فيلم "ران". من خلال الشاشة العريضة يمكنك ان تعيش معاناة الاباء عندما يزورون ابنائهم فلا يجد الابناء وقتا لابائهم في رائعة اوزو "قصة طوكيو" التي تحكي الاختلاف بين الجيلين .
في فيلم ” يوجيتسو ” ، يأخذنا ميزوغوتشي في قصة مأساة عائلتين بسبب طمع الازواج ايام الحرب الاهلية اليابانية في القرن السادس عشر ، في قصة مؤثرة بحق ابدع فيها المخرج في وصف تجلي الاهواء النفسية ككوابيس تلاحق الانسان .
من الصعب جدا ان تجد موضوعا لم تتناوله الافلام او لم تجسده لك في مشاهد سينمائية باقية كالجنة و النار ، الجن و الملائكة ، عزرائيل ، الشيطان ، الارواح ، الفقر و الجوع ،، الكلام يطول و لكن سأختصر …
الافلام غنية و مفيدة و مليئة بالثقافة و العلم و التاريخ ، لكن كي يمكن الاستفادة منها يجب توخي الحذر في اختيار الافلام فالغث اكثر بكثير مما هو في الكتب .
من جهة اخرى يجب ان نترك خصلة الكسل فنشاهد الافلام كمتعة فقط او لا لشيء و انما فقط لاننا لم نجد شيئا نعمله ! فهذه النوعية من المشاهدة مثل قراءة المجلات و جرائد الاخبار لا تعتبر قراءة حقيقة.
و اخيرا يجب ان نتحلى بعين الناقد و ننظر الى ما بين السطور و نحاول ان نعرف ماذا يريد ان يقول المخرج و ان نستشعر الرسالة التي من اجلها تم انتاج هذا الفيلم.

دمتم في الرضا