:: كل المقالات ::

Tue, 13 Dec 2016

مرثية الرياضيات

بسم الله الرحمن الرحيم
من سعادة حظي اني اطلعت على رابط لمقالة لوكهارت من خلال زيارتي لموقع سلاشدوت المهتم بأخبار التكنولوجيا ، و على الرغم من عدم توقعي الكثير من هذه المقالة في باديء الامر الا اني وقفت مسحورا بين اسطرها و اعدت قراءتها و من ثم استزدت من مقالات اخرى مهتمة بهذا الموضوع.
بصدق هذه روعة قراءة الكتابات الغربية : الشفافية ، السهولة ، الاختصار ، العمق و الفائدة .
و هذه الاسطر مجرد مختارات مما علق في ذهني بعد قراءة المقالة .
” و هذا كل شيء ! وصفة كاملة لتعطيل العقول الناشئة تماما – و علاج مستدل للفضول . ماذا فعلوا بالرياضيات !..
ان في هذا الفن القديم لجمال عميق و سحر يأسر الالباب ، فيا للسخرية كيف يقوم مجموعة من الناس بتهميش الرياضيات و جعلها اداة لقتل الابداع ؟ انهم اضاعوا فنا اقدم من اي كتاب ، اغنى من كل قصيدة ، تجريدا اعظم من كل تجريد ! و من فعل هذا كله ؟ المدرسة !
دائرة مأساوية من الاساتذة المساكين يجنون على الطلاب الابرياء ، كــــــــان بامكاننا جميعا ان نستمتع اكثر من هذا …”
هكذا ينهي بول لوكهارت مقالته الطويلة المعنونة بمرثية الرياضيات و هي بحق من اروع و اقوى المقالات الاجنبية التي قرأتها لصدق عواطفها و عمق نظرتها و شمول تحليلها و انطلاقها من الصميم و اللغة الشعرية الرائعة التي كتبت بها المقالة . من هذه الخاتمة فقط نستطيع ان نستنتج الكثير و نعرف مدى معاناة هذا الرجل مع سلك التعليم و تعليم الرياضيات خاصة و هذا في الغرب فما بالك بالوضع هنا في الشرق ؟
دعونا من لوكهارت للوقت الراهن و لنعد بالزمن الى الوراء … الى عالم الرياضيات البريطاني هاردي العام 1940 في مقالته "اعذار عالم الرياضيات" .. هذه المقالة تشترك مع المقالة الاولى في نقاط و لكن اهم نقطة هذه :
His belief that mathematics should be pursued for its own sake, rather than for the sake of its applications. The act of pursuing mathematics for the sake of their purity, for their internal perfection and for the clarity of their underlying concepts. ما اريد ان اصل اليه انه هناك خط من علماء الرياضيات ينبذون الرياضيات التي يعرفها العامة و يتبناها النظام التعليمي . الرياضيات عندهم يجب ان تعامل كالشعر و كالرسم فهي نوع من انواع الفن بل ارقى من وجهة نظرهم لانها تعبير عن البساطة بشكل انيق و تفكير ابداعي خيالي و هذا ما لا نراه في الرياضيات الاكاديمية الان .
الكاتبان يتبنان فكرة ان افضل الرياضيات هي الرياضيات الصرفة ، بعبارة اخرى هي الرياضيات التي ليس لها تطبيقات على الواقع و لكن هاردي يتبنى هذه الفكرة لانه يرى ان الرياضيات بهذا الشكل لن يتم استخدامها في الشر و اما لوكهارت يتبنى الفكرة لان الرياضيات الصرفة هي التي تتمتع بالاستدلال السهل الانيق و اما الرياضيات التطبيقية فهي مجرد حشو قبيح مبتذل .
يقول كارل فردريك جاس " الرياضيات ملكة العلوم ، و نظرية الارقام ملكة الرياضيات" واستدلوا على ان نظرية الارقام ملكة الرياضيات بالقولين السالفيين .
و لكن معلوم لدى من قرا عن مفتاح التشفير العام انه يبني بشكل كبير على نظرية الارقام فيسقط استدلال هاردي و يبقى استدلال لوكهارت . و ربما هذا الحال ينطبق على النظرية النسبية و استخدامها في تطوير القنبلة الذرية.
الشيء الذي لم ار له ذكرا في مقالة لوكهارت و كان من المعالم البارزة في مقالة هاردي هو ان الرياضيات لعبة الشباب و ان الانسان عندما يكبر يفقد جزءا كبيرا من قدرته الابداعية و ربما هذا من الاسباب الرئيسية في كتابة تلك المقالة الخاصة بهاردي و قد ناهز الـثانية و الستين من العمر .
نعود الى لوكهارت مرة اخرى ، و لكن لنعرف قليلا عنه :
هو برفسور في الرياضيات بدا في تدريس الابتدائية الى ان انهى دراسته و اصبح برفسورا ، فبدا بالنشر و التدريس في الجامعة و لكن المهم في الامر انه مل من هذا الامر و عاد الى تدريس الابتدائية حيث يقول انه في الابتدائية فقط بدا يدرس الرياضيات الحقيقية . من مقولاته الجميلة " اريد ان يعرف الاطفال انه يوجد لديهم ملعب للعب ، و لكن داخل اذهانهم ! حيث هناك توجد الرياضيات !".
مرة اخرى الى المقالة :
ما هي الفكرة الرئيسية التي يسعى الكاتب للوصول اليها ؟ انها بلا شك ان النظام التعليمي المتبع الان هو مجرد هراء و تنفير للطلاب عن مادة الرياضيات بل و اداة لتجميد عقولهم. و كل النقاط الاخرى في المقالة تذهب و تعود الى هذه النقطة الرئيسية . فمن الافكار الجانبية على سبيل المثال لا الحصر:
- تقسيم الرياضيات الى مستويات في حد ذاته امر خاطيء بل يجب ان ينساب الطالب مع انسياب المشكلة.
- الرياضيات هي المشاكل و النظر اليها بشكل ابداعي.
- النظام التعليمي يسعى لتعقيد الامور مخالفا مبدأ البساطة و استدل بأمثلة تؤيد كلامه.
- من مشاكل التعليم طرح الحلول قبل الاسئلة .
- حفظ المعادلات و القوانين بما يوجب قتل الابداع و التركيز على الحفظ و اتباع طريقة ميكانيكية في الحل .
- محاولة تبرير الرياضيات بتطبيقاتها العملية .

و لو اخذنا المقالة من النهاية لقرانا فقرة بعنوان " مناهج دراسة الرياضيات المعتمدة في المدارس" حيث يستعرض الكاتب كل منهج بصراحة تامة و يبين عيوبه بسخرية لاذعة ! او ربما ليست سخرية ! ربما يعني كل كلمة يقولها ! و لكن في كل الاحوال لا تخلو من صحة مثلا اول جملة في وصف اول منهج :
في هذا الكورس يتعلم الطلاب ان الرياضيات ليست شيئا تعمله بل شي يعمل عليك !.
… غاية في السخرية و لكن ماذا نقول انه الواقع !
بداية المقالة على الجهة الاخرى سينمائية ! في البداية نقرا كابوس موسيقار و من ثم ننتقل الى كابوس رسام و في النهاية نرى تطبيقا عمليا لما رايناه في الاحلام بما يحدث للرياضيات في المدارس !
ثم نبدأ رحلة قصيرة نبحث فيها عن المسؤول هل هو النظام التعليمي ام الناشر ام الاساتذة ام الطلاب ؟!
لو تركنا هذا الامر جانبا لماذا المجتمع يعترف بالرسم و الشعر و الموسيقى كفنون و لا يعترف بالرياضيات كفن ؟
لماذا يقال عن منتج و مخرج و حتى طاهي الطعام ! فنان و لا يقال عن عالم الرياضيات فنان ؟ و انى للمجتمع ان يقول عن عالم الرياضيات فنان و المجتمع ليس لديه ادنى فكرة عما يفعله الرياضيون ! كل ما يعرفه المجتمع ان الرياضيين يساعدون العلماء او يحلون معادلات رياضية من نوعا ما !
لو قسمنــــــا العالم الى " حالمين بالخيال " و مفكرين بالمنطق ( العقل) ، اين سيضع المجتمع عالم الرياضيات ؟ اكيد في الخانة الثانية ..
في حال ان الرياضيات اكثر شاعرية و اكثر خيالا و حتى اكثر دهشة من الفيزياء ، الرياضيات تخيلت الثقوب السوداء قبل ان يجد رواد الفضاء واحدا منها! هذا خيال الرياضيات و هذا ابداعها على بساطتها و اناقتها فما ينقصها عن الشعر و الرسم ؟
اذا بحق الله ماذا يفعل الرياضيون ؟ سيجيبك هاردي :
" الرياضي كالرسام و الشاعر هو منشيء انماط . و اذا كانت انماطه اكثر بقاء منهما فذلك لانها تصنع مع الافكار"
اذا الرياضي يجلس و يبدع انماطا من الافكار . و بما ان من مباديء الرياضيات "البساطة الجمال"، اذا الرياضي يتمتع بالتفكير في ابسط الامور و ابسط الامور الممكنة هي خيالية .
النقطة المهمة الاخرى ان الرياضيات يجب ان لا تتعلم من اجل تطبيقاتها ..
انتظر دقيقة سؤال : هل تدعي ان الرياضيات لا تقدم تطبيقات مفيدة للمجتمع ؟
بالطبع لا ! و لكني اشير الى ان الشيء ربما يكون له توابع و تطبيقات و لكن الشيء و توابعه شيئان مختلفان فلا نفهم الشيء من تطبيقاته .. مثلا الموسيقى قد تعزف لتدخل الجيوش في المعارك و لكننا لا نكتب السيمفونيات لهذا الغرض !
طيب سؤال : السنا في حاجة هذه الرياضيات التطبيقية التي ندرسها في المدرسة ؟
جوابك هو في عدد الاشخاص الذين يستخدمون ما تعلموه فعلا بعد التخرج ! اغلب الناس تتخرج لتبقى لديها ذكريات كره و عذاب تجاه الرياضيات !
لن اطيل اكثر فمن اعجبه الموضوع و اثارت فضوله الاسئلة و اراد ان يتلمس مواطن الخلل في التعليم و يعرف لماذا التعليم يعاني فشلا ذريعا و احب ان يستزيد في تشغيل ابداعه العقلي فليقرا المقالة من هنـــــا :
مقالة لوكهارت:
http://www.maa.org/devlin/LockhartsLament.pdf
مقالة هاردي :
http://www.math.ualberta.ca/~mss/misc/A%20Mathematician’s%20Apology.pdf
" نفكر في الكليات ، و لكننا نعيش في التفاصيل "
" دراسة الرياضيات جنون مقدس من الروح الانسانية "
" التطور يأتي من اعادة قراءة و فهم الافكار الاولية "
اندريو والس
"هذا جيد و حسن في التطبيق ، و لكن اين مكانه في النظرية ؟"
وينبرجر
"في عملي حاولت ان اجمع بين الجميل و الصحيح ، و لكن في مواطن عدم القدرة على توحيدهما كنت اختار الجميل !"
هيرمان
" الله عز و جل اوجد الاعداد الصحيحة ، و كل ما سوى ذلك من صنع الانسان "
سبحان ربك رب العزة عما يصفون و سلام على المرسلين و الحمد لله رب العالمين