:: كل المقالات ::

Tue, 13 Dec 2016

عائلة و سنة بدون تقنية

بسم الله الرحمن الرحيم

قرأت مؤخرا هذا الكتاب الطويل (1) – حوالي 400 صفحة – و الذي يحكي مجريات 365 يوما قضتها عائلة مؤلفة من ثلاثة افراد بدون تقنية . اولا لنتعرف على ابطال القصة فهذه العائلة مكونة من الام و هي صاحبة المقترح و تدعى "شاريل كولبرج" و هي صحفية و كاتبة في مجال التقنية . و ايضا لدينا الاب و الذي يدعى جف و ابنتهما الطفلة الظريفة كاتلين . هذا و لم اجد شخصيات ثانوية في الرواية فالبقية فقط اشخاص بأدوار مساعدة بسيطة . اما التجربة فهي ان تعيش العائلة بدون تقنية لمدة سنة كاملة و لكن هذا لا يعني الانقطاع الكلي فقد وضعوا قوانين محددة تتيح لهم مثلا استخدام التقنية فيما يتعلق بعمل جف و ايضا يمكن استخدام التقنية خارج المنزل.
حقيقةً كنت اعتقد انني سأقرأ كتابا او دراسة عن التقنية و اثارها و لكن في الحقيقة الكتاب عبارة عن رواية على شكل يوميات عائلة تركت التقنية . لهذا قد تجد الكاتبة تسترسل في مواضيع ليس لها علاقة مباشرة بأصل الموضوع مثلا تتكلم كثيرا عن تربية الحيوانات الاليفة و الزراعة. بل انني أصبت بخيبة امل عندما وجدت الفصل الاخير لا يلخص التجربة و انما يغلق اخر فصول الرواية . لهذا ان كنت مهتما فقط بجانب تأثير التقنية فهناك كتب اخرى قد تكون مناسبة اكثر و قد قرأت مؤخراً كتاب " نكولاس كار"(2) عن تأثير الانترنت على عمل العقل و قد استرسل في سرد الدراسات التاريخية و العلمية بخصوص التقنية و تأثيرها .
عودا على الرواية ففي الجانب الادبي لا يوجد الكثير لأتكلم عنه فهي رواية بسيطة عن عائلة امريكية تحاول جاهدة ان تملأ الفراغ الذي خلفه ترك التقنية . على ان هناك الكثير من الفوائد التي تحصلت عليها العائلة جراء تركها التقنية الا ان هناك سلبيات واضحة ايضا. لنبدا بالايجابيات فمثلا ادعت الكاتبة :
1- تحسن علاقتها الزوجية و الحميمية مع زوجها.
2- ازدياد فترات جلوس افراد العائلة في جلسات عائلية .
3- توفر الكثير من اوقات الفراغ جراء ترك مشاهدة التلفاز و غيره .
4- ازدياد الابداع في استغلال اوقات الفراغ بدلا من الذهاب اللاشعوري الى التقنية.
5- اكتساب هوايات جديدة و انشطة خيرية للزوجة.
6- انشغال الطفلة بأنشطة و هوايات بديلة .
7- الخروج الى الطبيعة اكثر .
8- عدم التعرض لمشاهدة الاعلانات التجارية قلل من النفس الاستهلاكي عند العائلة.
و لكن هناك ايضا بعض السلبيات :
1- ضياع الكثير من الوقت في عمليات كانت لتستغرق بضع دقائق باستخدام التقنية.
2- توجد اوقات هناك فعلا حاجة ملحة للتقنية مثلا عندما تتعطل السيارة في الطريق.
3- كثرة الاعتماد على الغير لاجراء بعض الاشياء التي تتطلب التقنية . هنا علامة استفهام فإذا كانوا يطلبون من الغير اجراء بعض الامور التي تعتمد على القتنية فلماذا لا يقومون بها بأنفسهم بدلا من التظاهر بترك التقنية و هم فعليا فقط اصبحوا عالة على الغير؟
4- هناك احيانا رغبة شديدة و مستمرة لدى افراد العائلة لمشاهدة بعض البرامج او تصفح البريد الالكتروني .
5- الحاجة لتبرير تركهم للتقنية لكل من ينتبه الى هذا الامر . هذه النقطة فعلا مزعجة و قد عانيت منها عندما تركت " الواتس " لفترة .
6- من النقاط التي لاحظت تكرارها عند هذه العائلة هي شعورهم بالاحباط عندما تكون هناك مناسبة تحتاج الى تصوير و لا يستطيعون ذلك ، مثلا حفلة تخرج ابنتهم من الروضة.
أعتقد ان هذه القائمة ستكون مختلفة من شخص لاخر مثلا انا لا اهتم بمسألة التصوير و التلفاز على خلافهم و لكن ترك التقنية ككل من الصعوبة بمكان في زماننا هذا . هناك الكثير من الذين يدعون الى تقنين التقنية او الى ترك انواع معينة منها و لكن نادرا ما نجد اشخاصا يدعون الى الانفصال الكلي عن التقنية . شخصيا ارى ان ترك التقنية ليس بذلك الصعوبة ففي اغلب الاحيان هي مجرد كماليات اعتدنا عليها و لكن الامر يعتمد على نمط الحياة بالدرجة الاولى . فمثلا انا كموظف اعمل في مكتب لن يمكنني التخلي عن التعامل مع الحاسب لانه جزء من العمل و لكنني مثلا لا استخدم خدمات الخرائط و التي هي شيء ضروري عند الكثير من سكان المدن الكبيرة. الجوال و هو تقريبا اهم اشكال التقنية حاليا طبيعي ان لا يمكنني الاستغناء عنه الان و انا موظف و لدي ارتباطات كثيرة و لكن ماذا بعد التقاعد ؟ اعتقد انه هناك امكانية لترك ليس فقط الحاسب بل حتى الجوال حينها ، طبعا انا لا اتكلم عن جدوى ذلك انما اتكلم عن الامكانية. من هنا فلا معنى من ان لا املك جهاز حاسب و هو جزء من حياتي العملية فالتكلف هنا ظاهر بخلاف مثلا والدتي فهي مستغنية عنه بدون تكلف لذلك الترك الذي لا يكون عن استغناء حقيقي لا اجده مفيدا . ما الفائدة من ترك الفيسبوك اذا كنت دائما افكر به ؟ و هذا ما حصل في احيان كثيرة لهذه العائلة فتجدهم يتحرقون شوقا لرؤية اخر حلقة من "امريكان ايدول" و يتحرقون لرؤية "اوبرا" ...ألخ . ما الفائدة من عدم امتلاك الهاتف النقال ان كنت سأطلبه من غيري كلما اردت ذلك ؟ اذا كانت المقاطعة لم توصلني الى نتيجة ان هذا الشيء يمكن الاستغناء عنه فلماذا المواصلة في المقاطعة ؟
بمناسبة الكلام عن الرغبات و الاستغناء عنها تذكرت ما قاله "الآن واتس" ذات مرة حيث اشار الى ان بوذا قد يقول لتلميذه " اترك الرغبات " فيذهب التلميذ المسكين ليجاهد في ان يكون انسانا عاريا من الرغبات و لكن بعد ان يصل الى مرحلة اليأس يعود الى بوذا ليدرك ان رغبة ترك الرغبات حجبته ! أعتقد انه هكذا بقيت الخصال لهذا الزهد ليس ان لا تمتلك شيئاً.
عندما كنت اقرا هذه الرواية بدأت بمقاطعة بعض اشكال التقنية لكي اكون ارتباطا مع هذه العائلة و اعيش معها جزءًا من التجربة . واقعا وجدت ان التجربة متقاربة و اجد انه على كل شخص في زماننا ان يعيد تقييم نمط حياته . المسألة ليست في المقاطعة ، المسألة في الوعي و معرفة عواقب الاستخدام و اثاره و في تحديد ما هو الضروري من غير الضروري . لا يفترض بنا ان نأخذ التقنية أخذ المسلمات . حقيقة هذا الموضوع شيق و يمكن ان يبحث من عدة جهات فله ابعاد طبية ، اخلاقية ، فكرية ، اقتصادية ..الخ . لهذا انصح كثيرا بقراءة امثال كتاب "نكيولاس كار" السالف الذكر و ان لم تكن هناك امكانية فلا أقل من قراءة المقالات المختصرة في هذا الباب.

دمتم في الرضا ،

(1) A Year Unplugged : A Family’s Life Without Technology
(2) The Shallows : What the Internet Is Doing to Our Brians