:: كل المقالات ::

Tue, 13 Dec 2016

مع كتاب الوسادة

بسم الله الرحمن الرحيم
كتاب الوسادة لكاتبته " سَيْ شناغون" يعتبر من اشهر الكتب في الادب الياباني فهو دائما يذكر جنبا الى جنب مع الرواية الشهيرة "قصة غنجي" لكاتبتها مورساكي شكيبو و التي يعتبرها البعض اول قصة يمكن ان يقال عنها رواية بالمعنى الحديث . نحن الان نتكلم عن اليابان حوالي نهاية القرن العاشر الميلادي و مطلع القرن الحادي عشر ، ويجدر ان ننتبه هنا الى ان الاسمين شناغون و مورساكي ليسا الاسمين الحقيقين للكاتبتين.
هذا الكتاب يصعب تصنيفه فإن قلت انه كتاب يوميات وصيفة في البلاط الامبراطوري فقد تكون ظلمت العمل حقه فهو اكثر من مجرد يوميات و خواطر بل هو بمثابة مستند تاريخي اجتماعي انما بصياغة ادبية فائقة الجمال . بل ان هناك كتبا استعارت طريقة الكتاب و قد تسمى بكتب الوسادة ايضا فلا غرو ان قلنا ان الكتاب فئة في حد ذاته.
و عندما قلت فائق الجمال فأنا لا اعني فقط من ناحية الصنعة الادبية و اللفظية و انما جمال حسي يستذوقه القارئ من خلال قدرة الكاتبة على اظهار مواطن الجمال في الاشياء اليومية الرتيبة . حيث يمكننا ان نقول ان الكاتبة لا تصف اشياء جميلة فحسب بل تخلق اشياء جميلة . اذا فهو الجمال الداخلي لدى هذه الكاتبة و احساسها المرهف و ذوقها العالي هو ما يجعلها قادرة على ان تكون خلاقة لكل هذا الجمال . و لا يخفى اهتمام اليابانيين خاصة في تلك الازمنة بالجمال و المسائل الذوقية فعلى صعيد البوذية ظهر الاهتمام بالحدائق و المعابد و لديهم مدرسة تتخذ من الفن خاصة الرسم سلما للرقي الروحي بل انه ذكر ان الرجال كانوا يعجبون بالفتاة من خلال مخطوطاتها .
عودة الى الكتاب فهو مستند تاريخي يسجل ادق مظاهر الحياة في القصر الامبراطوري و هو مقسم على شكل مقطوعات اشبه ما تكون بالقصص القصيرة و لكنها تختلف في الطول و القصر كثيرا . تسجل الكاتبة في كل مقطوعة حادثة معينة او حوارا بين شخصيات في البلاط او موقفا مع جلالة الامبراطورة او بعيدا عن هذا كله تسجل ملاحظاتها و قد تضمن الاشعار و قد تستخدم اسلوب القوائم فتعدد امثلة لاشياء معينة كما سيأتي .
ما شدني حقا هو القدرة الاستثنائية على الوصف لا اقول كاللوحات المرسومة و انما اقول كأنك تشاهد فيلما سينمائيا او مشهدا مسرحيا ، فهي تبدا بصور بسيطة و تنتهي بمشهد مركب غني بالتفاصيل تتزاوج فيه الشخصيات بالجمادات و البيئة المحيطة ليأخذك الخيال الى اليابان في تلك الحقبة فكأنك حينها جالس معهم في ليلة سمر و الامبراطور ينادم الوصيفات و يختبر مخزونهن من الشعر .
الامر الاخر هو ان دور الكاتبة لم يقتصر على مجرد الوصف بل ابدت رايها الصريح في عدة امور و اشخاص بشكل صريح و ربما فظ . هذه الصراحة و ان كانت تفيد نوعا من النظرة الدونية لمن هم دون مستواها الا انني اشيد بهذه الصراحة لانها تنم عن شجاعة و صدق حري بنا ككتاب ان نتصف بها و ان نبتعد عن ادعاء المثاليات التي تؤثر على صدق التجربة. من امثلة هذه الصراحة قولها ان الراهب (المبشر) يجب ان يكون وسيما كي يجذب الناس لا ان يكون دميما فينفر الناس منه .
و ايضا رايها الدوني لربات المنزل فهي تمقت من جعلت كل همها زوجها و اسرتها و تدعو الى تعلم المراة و شغلها مناصب في البلاط و بذلك تكون شناغون من الداعيات الى حقوق المراة قبل الف سنة تقريبا .
و من ارائها الغريبة انها ترى ان الرجل مهما كان وسيما فانه ان لم ترافقه صديقة فقد خسر شيئا كثيرا من جماله و ابهته .
من الناحية الشعرية فالكاتبة تتمتع بثقافة عالية و تحفظ الكثير من القصائد بل تكتب من نظمها و يبدو ان السجال الشعري و الارتجال كان منتشرا في البلاط وقتها . هذا و لكني حقيقة لم استذوق الابداع الشعري فيبدو لي ان الترجمة الانجليزية لم تحتفظ بالكثير من خصائص الشعر الياباني لذلك جاءت الابيات بعيدة عن مستوى النثر في الكتاب . هذا و اعتقد ان من يريد الاستمتاع بهذا العمل اكثر يجب ان تكون لديه خلفية و لو بسيطة عن اليابان و عاداتها و تقاليدها في تلك الازمنة و الا سيصعب تخيل القصور و الغرف و الوصيفات و الخدم و الحدائق و الاواني و الملابس و ما الى ذلك .
مثال على اسلوب القوائم :
هذه فقرة من مقطوعة بعنوان "الاشياء التي فقدت قوتها" ، فبعد ان تعدد الكاتبة بعضا من الاشياء التي فقدت قوتها تعطي مثالا اخيرا فتقول :
" … امراة غاضبة على زوجها بسبب قضية تافهة تخرج من بيتها لتختبئ في مكان ما . هي واثقة بأنه سينطلق مسرعا للبحث عنها . لكن و على عكس توقعها هو لا يبدي اهتماما و كأن وجودها و عدمه سواء عنده ، و لانها لا تستطيع ان تبقى بعيدا الى الابد فإنها تبلع كبرياءها و ترجع " .
في مقطوعة قصيرة جدا بعنوان " الاشياء التي تعطي انطباعا مثيرا للشفقة " تعدد لنا شناغون :
صوت من ينظف انفه و هو يتكلم .
تعابير وجه امراة تنتف حواجبها .
الاسلوب القصصي :
هناك الكثير و الكثير من القصص القصيرة التي غالبا تدور احداثها بين شخصيات تعيش في البلاط ففي احدى تلك القصص تخبرنا الكاتبة عن ليلة كان الثلج يتساقط بغزارة و قد امرت الامبراطورة ان يبنوا جبلا عملاقا من الثلج ثم بداوا مسابقة في توقع المدة التي سيصمد فيها هذا الجبل قبل ان يذوب و تبدا احداث هذه القصة عندما تضع شناغون توقعا بعيدا جدا على خلاف توقعات الحضور .
في قصة اخرى تخبرنا شناغون عن راهبة جاءت لتستجدي ما بقي من الاكل بعد طقوس عبادية، و ان الراهبة اثارت سخرية الحضور بذلتها في الاستجداء لدرجة انها بدات بالرقص و الغناء استجابة لطلب الحاضرات و لكن الامبراطورة امرت باعطائها ثوبا جديدا . في اليوم التالي عادت الراهبة للاستجداء و عليها ثيابها الرثة !
مثال الشعر الياباني:
برقة يجري نهر يوشينو
بين جبل ايمو و جبل سي
لكن لو قدر ان ينهار الجبلان
النهر سيختفي من رؤيتنا ايضا
مثال اخر …
اعتقدت اني سمعت فأس الحطاب
يرجع مرددا بين التلال
لكنه كان صوتا اكثر سعادة
صوت قطع صولجان الاحتفال
مثال وصفي :
بعد ان تذكر لنا شناغون حوارا بين الامبراطورة و اخيها ينتهي هكذا :
الامبراطورة : كيف تمكنت من الوصول ؟ كنت اعتقد ان كل الطرق مدفونة بالثلوج "
اخ الامبراطورة : خطر ببالي انني لربما حركت قلبك .
تسترسل شناغون فتقول :
" هل يمكن لشيء ان يفوق هذا الحوار بين الامبراطورة و اخيها ؟ هذا هو الحوار الذي يوصف لنا ببلاغة في الرومنسيات. و الامبراطورة نفسها مكسوة بثوب ابيض و رداء ابيض زين بزخرفة صينية حمراء رمادية اضافة الى طبقتين من الاوشحة القرمزية التي انسدل عليها شعرها المرتخي ، كان جمالا رايته في اللوحات المرسومة و لكن لم اره في واقع الحياة ، كان كالحلم".
ختاما اقول ان هذا من الكتب التي تصنف من عيون الادب الياباني بل العالمي و انصافا لم اكن اتوقع ان يثير اعجابي لهذه الدرجة لانني مطلع على الادب الياباني من قبل و لكن وجدته كتابا يمكن ان يقرا من عدة زوايا فقد احتوى على القصص و الشعر و التاريخ و الاجتماعيات و الاخوانيات كل ذلك و اكثر بروح جميلة و احيانا بنفس تهكمي ساخر مما يدل على عبقرية الكاتبة خاصة اذا لاحظنا قدم هذا العمل الادبي.

سبحان ربك رب العزة عما يصفون و سلام على المرسلين و الحمد لله رب العالمين