:: كل المقالات ::

Sun, 29 Apr 2018

ثم لم يبق احد

بسم الله الرحمن الرحيم

آجاثا كريستي تلك الكاتبة الرائعة لطالما كنت اعشق رواياتها و لربما كان هذا إرثا من والدتي التي كانت تقرأ جميع ما يقع في يدها من تلك الروايات . في هذا الشهر قرأت روايات لهاروكي موراكامي و هان كان و فيتجزرالد ثم اخيرا قرأت لاجاثا كريستي و بالرغم من كل هذا الابداع الروائي الحديث الا انه يبقى لروايات اجاثا طعمها الخاص. هذه الرواية تعتبر اكثر روايات اجاثا كريستي مبيعا حيث تعدت مبيعاتها حاجز المائة مليون نسخة لتحتل مكانة مرموقة بين اكثر الاعمال الادبية مبيعا على مر التاريخ . و لكي لا افقد شيئا من حلاوة العمل اخترت ان اقرا الرواية بنصها الانجليزي الاصلي فاشتريت النسخة من مكتبة جرير بثلاثين ريال . عنوان الرواية الانجليزي هو and then there were none و قد سبق نشر هذه الرواية بعناوين اخرى حقيقة استغربها ، فالعنوان الاصلي كان ten little niggars اي عشرة زنوج صغار ! و كان اسم الجزيرة على ما اعتقد جزيرة الزنوج و لكن النسخة التي قرأتها هي النسخة الامريكية حيث تم تغيير العنوان و اسم الجزيرة فأصبحت الجزيرة تدعى بجزيرة الجنود .
في المقدمة القصيرة للرواية التي كتبتها كريستي ذكرت ان هذه الرواية اصعب رواية كتبتها من الناحية الفنية و رأيتُ من النقاد من يعتبرها في المستوى الاول مع رواية مقتل روجر اكرويد. في كل الاحوال لا توجد قائمة لافضل اعمال اجاثا كريستي لا تحتوي هذه الرواية فمن له اهتمام بالادب البوليسي لا يمكنه ان لا يقرا هذه التحفة الفنية .
تدور احداث القصة عن عشرة اشخاص يدعون الى جزيرة صغيرة و حينما يستقر بهم المقام يفاجؤون بأن مستضيفهم غير موجود و انه لن يتمكن من الحضور في الوقت الراهن . في هذه الاثناء يقوم النادل و زوجته بإكرام الضيوف الى ان يصدموا مرة اخرى عندما يسمعون شريطا مسجلا يخاطب الحضور واحدا واحدا و يتهمهم بجرائم قتل ارتكبوها . ما يربط جميع هذه الجرائم هو انها من النوع الذي لا يحاكم عليه القانون ، مثلا القتل الخطأ او الخطأ الطبي و غير ذلك ، ما يوحي بأن المجرم هنا يحاول ان يمثل دور يد الغيب. و من هنا تبدأ الاحداث ...
و الان لنستكشف بعض الامور التي تجعل من هذه الرواية تحفة فنية نادرة و لكن قبل هذا يجب ان نلاحظ ان هذه الرواية نشرت في العام 1939 اي ان اغلب ما سأذكره هنا هو سبق خاص لهذه الرواية او على الاقل ان لها عصا السبق في ترويج بعض هذه التقنيات الفنية .
لماذا لا نبدا بالحبكة القصصية المعقدة لهذه القصة فعادة روايات القتل و الجريمة تتمحور حول جريمة او جريمتين و بين عدد محدود من الشخصيات و لكن هذه الرواية و كما هو ظاهر من عنوانها تحتوي على عشر جرائم قتل متتابعة في ظروف غامضة و كان الامر ليسهل تفسيره لو كان القاتل الاخير قتل نفسه بعد قتل الجميع و لكن ذكر في تقرير الشرطة انه يفترض ان هناك من كان حيا بعد موت اخر شخص و لكن هذا مستحيل عمليا لان هذا الاخير لم يكن ليستطيع الهروب من هذه الجزيرة و هي مراقبة بشدة. فالحبكة هنا محكمة و معقدة و تحتوي على عنصر المفاجأة مرات كثيرة فكلما توقع القارئ شيئا عادت اجاثا لتهدم كل التوقعات . في هذه الرواية سعي حثيث نحو الجريمة الكاملة فالعقل المدبر لها كان يحاول ان يرسم لوحة فنية متكاملة اذ انه على حد تعبيره لم يجد طريقة افضل للتعبير عن رغباته سوى بتنفيذ جريمة قتل متقنة و فنية . لهذا تجد ان القاتل يضع لمسات فنية مع بعض الجرائم بل ان طريقة التنفيذ تتبع قصيدة تصف مقتل كل واحد من العشرة .
ما اثار اعجابي حقا بخصوص هذه الرواية ان الكاتبة اخذت وقتها في بناء مسرح الجريمة بل انها استطاعت مع قصر الرواية – 250 صفحة – ان تطور كل الشخصيات و تسبر اغوارها من خلال قصص موازية لكل شخصية نستكشفها من خلال المونولوج الشخصي لكل منها . لهذا حتى على مستوى التعاطف مع الشخصيات قد نبدا مع اشخاص معينين ثم يتبين ان هذه الشخصيات تخفي الكثير من ماضيها و نواياها. و قد قالت الكاتبة انها حاولت قصارى جهدها ان تكون الرواية واقعية و قد وفقت الى حد كبير في ذلك فالاحداث في مجملها معقولة و يمكن ان تحدث في الواقع و ان كان هناك تسامح كبير في كون الاحداث كلها تجري حسب تخطيط المجرم فالبعض منها حقيقة بعيد المنال و ان كان غير مستحيل . عموما لا يوجد الكثير من الثغرات في النص و لكن يبدو لي ان في النهاية هناك ثغرة واضحة – لا استطيع ذكرها الان كي لا افسد على من يريد قراءة الرواية - .
بناءً على ما تقدم يمكننا ملاحظة ان اغلب ما ذكر هنا اصبح قاعدة لاعمال فنية اخرى و تأثر الافلام و الروايات بها لا يخفى على اقل مطلع على النتاج الفني اللاحق لهذه الراوية . فهذه الرواية قد تم تحويلها الى افلام سينمائية على حسب علمي اربع مرات هذا غير النسخ المسرحية و تحويلها الى العاب ورق معروفة يشارك فيها مجموعة من اللاعبين لاكتشاف القاتل . و لكن ما يميز هذه الرواية انها اثّرت على مئات الاعمال الاخرى و لا ينفع التقصي هنا و لكن يكفي ان تنظر الى مسلسل المحقق كونان فكتّاب هذا المسلسل يعتمدون تقنيات هذه الرواية في اغلب حلقاتهم . ثم لم يكتفي التأثير على الادب البوليسي بشكل خاص بل تجاوز الى افلام و روايات الرعب و الغموض و من اشهر هذه الافلام المتأثرة سلسلة افلام SAW المشهورة . يكفي ان تتذكر انك عندما تشاهد عملا يحكي عن اشخاص محتجزين و القاتل منهم او عقل اجرامي متفنن او مجرم يستخدم الاشارات و الالغاز لتوقيع كل جريمة ، فأنت تشاهد تأثر الكاتب بهذه الرواية مباشرة او عن طريق وسائط اخرى تأثرت بها.


دمتم في الرضا ،