:: كل المقالات ::

Mon, 03 Apr 2017

المرآة الخالية

بسم الله الرحمن الرحيم

كتابنا اليوم من حقبة الخمسينات من القرن الماضي تلك الحقبة التي سبقت اعمال 'رام داس' و 'الان واطس' و غيرهم من مروجي الديانات الشرقية في الغرب. هذا الكتاب عبارة عن تجربة شخص هولندي في الحياة بمعبد بوذي في كيوتو و هو يعتبر من اوائل الغربيين الذين ذهبوا لاستشكاف ما لدى الشرق من روحانية . يقول المؤلف ان سبب ذهابه الى كيوتو و هو شاب لا يعرف اليابانية يتلخص في بحثه عن الحقيقة فهو كان يدرس الفلسفة في لندن و لكنه لم يجد الاجابات التي تشفي غليله فأشار اليه استاذه وقتها بالذهاب الى الشرق لتعلم نوعية اخرى من المعرفة معرفة تخاطب الوجود لا الفكر . بعد رحلة طويلة و شاقة بين الهند و دول شرق اسيا اختار اليابان و اختار عاصمتها الروحية كيوتو للبحث عن معبد يقبل بمريد غربي . و من سعادة حظه انه فعلا وجد مراده عند معبد بوذي يتبع مدرسة الزن و قد شرط عليه الراهب الكبير ان تكون مدة اقامته ثمانية اشهر على الاقل . و قد سهل له مهمة البقاء تواجد شخص يدعى بيتر كان يجيد اليابانية و كان متقدما في مراحل سلوكه و يحظى باحترام خاص عند كبير الرهبان . من هنا يعتبر الكتاب مذكرات لهذا الراهب الغربي حيث سجل فيه يومياته و تأملاته . البعض المح الى ان الكتاب يعاني من مسألة قدم وقت تأليفه و ان اثر الزمان قد بدا واضحا عليه و لكني شخصيا لم الحظ هذا الشيء و اجد ان الكاتب كان موفقا جدا في كتابه و لم يقع في فخ التكرار الممل او السردية الناشفة . نعم هو تعرض الى اساسيات البوذية من مثل الحقائق النبيلة الاربعة و الطريق الثماني و لكن بشكل مختصر بعيد عن التكرار و التطويل . بل اجد ان الكاتب قد نجح في ان يجعل الكتاب مرآة لحياته اليومية بدلا من ان يجعله كتابا تعريفيا بالبوذية لهذا لا اجد ان مسألة الوقت ستؤثر كثيرا على الكتاب حتى للسنوات القادمة . و حتى القصص التي ذكرها في الكتاب اجدها غير مكررة اذا استثنينا قصص الكوينز المعروفة "koans" و طبعا هذه القصص قصيرة و في الاعادة افادة خاصة ان وقعت في محلها و هذا ما حصل فعلا . قد نستطيع تلخيص الروتين اليومي في هكذا معابد بالجلوس المبكر حوالي الساعة الثانية او الثالثة فجرا ثم التأمل لفترات طويلة ثم الذهاب لمقابلة المعلم ثم الافطار فتنظيف المعبد و الحديقة ثم مزيدا من التأمل ثم القيلولة ثم مزيدا من التأمل و هكذا الى حوالي الحادية عشر ليلا . تصل فترات التأمل جلوسا و مشيا حوالي 8 - 12 ساعة و تصل في بعض الاسابيع الخاصة الى 15 ساعة يوميا ! طبعا هكذا فترات طويلة من الجلوس و بوضعية خاصة له ما له من الالام و التعب و قد ركز على هذه النقطة كثيرا و ذكر ان اغلب الرهبان يعانون من اضطرابات المعدة و البواسير . الجزء المهم الاخر في طقوس المعبد هو الكوينز و هي عبارة عن اسئلة تشبه الالغاز يعطيها الاستاذ لطلابه و يتركهم ليعانوا في حلها و كل يوم يعرضون عليه ما توصلوا اليه من اجابات . هذه الاسئلة قد لا ينفع فيها التفكير العقلي بل تحتاج الى نوع من الاجابات الوجدانية العفوية فمثلا هناك سؤال يقول ما هو صوت تصفيق اليد الواحدة ؟ و قد سألوا احد الرهبان عن الكلب هل له طبيعة بوذا ؟ فأجاب الراهب بدون تردد " هوو هوو " . و قد تصل هذه الاجابات الى مستويات غريبة فالكاتب يذكر قصة راهب وصل الى احد المعابد و عندما قرع الباب سأله الراهب الذي في المعبد " كيف كان شكل وجهك قبل ان يُولد ابواك ؟" فما كان من الراهب الا ان اخذ فردة من نعليه و صفق بها وجه الراهب الذي في المعبد ! لكن ليس كل نهايات هذه القصص سعيدة فهناك راهب كان سؤاله كيف توقف قطار طوكيو او شيء قريب من هذا المعنى فبعد الجهد و المعاناة في حل اللغز رمى الراهب بنفسه امام القطار و اودى بحياته . و كذا الصرامة التي تجدها في معابدهم فقد ضرب احد المعلمين التلميذ بخشبة التأديب فأودى بحياته .
و من المعلومات التي اكتسبتها من هذا الكتاب انه توجد ايام مفتوحة للرهبان يمرحون و يشربون الساكي و السيجار. و قد فهمت من الكاتب ان العوائل اليابانية ترسل اولادها الى هكذا معابد لفترات قصيرة قد تصل الى سنتين او ثلاثة لكي يتعلموا من حياة الرهبان . غني عن الذكر ان الرجل تعلم الكثير في فترة اقامته التي اربت على السنتين و لكن هل وصل الى الحقيقة التي جاء بحثا عنها ؟ من الغريب حقا ان الكاتب انهى الكتاب بشكل واضح و صريح في كيف انه لم يصل الى ما كان ينشده و لا اعتقد انه كان سيصل و لو امضى فترات اطول و هو يذكر انه كان يشرب الساكي و السجائر و يتحين الفرص لتلبية رغباته الغريزية فهو يذكرني باحدهم حيث انه قضى حوالي ثلاثة اشهر في احد المعابد و قد كانوا يطعمونه الخضروات المسلوقة طيلة فترة بقائه و عندما خرج من المعبد كان اول عمل قام به هو شراء سلطة طازجة !
الان سألت نفسي ماذا لو ذهب شخص مسلم الى هذه المعابد هل يستطيع العيش فيها و هم دائما ما يركزون على ان طريقتهم غير مختصة بدين معين و انها لا تحتاج الى اعتقادات خاصة تتعارض مع اعتقادات مسبقة. الان لو اتكلم عني شخصيا فهناك عدة عقبات قد تصادفني كشخص مسلم اضافة الى العقبات التي نشترك فيها مع الاجانب . من ذلك مسألة الاكل فصحيح ان الاكل في مجمله اكل نباتي و لكنه لا يخلو ان يأكل الرهبان اللحوم و غيرها خاصة عندما تقدم اليهم هذه الاطباق من عامة الناس . المسألة المهمة الاخرى هي الطهارة حيث ستكون الحياة عسيرة و الحال ان كل من تمسه او يمسك برطوبة ينجسك. مشكلة اخرى هي الطقوس الاسلامية فهي كما الصلاة كتاب موقوت و ستتعارض مع طقوسهم اليومية .
قد يقول البعض و ما اهمية هذه الحياة المتنسكة و الانطواء فالمجتمع هو مكان الجهاد و ما الى ذلك و لكن هذا الكلام يتجاهل ما للعزلة من فوائد فمسألة العزلة ليست حكرا على الديانات الشرقية فقد وردت في اغلب الاديان و ديننا الاسلامي الحنيف ، قال الصادق عليه السلام " ما من نبي و لا وصي الا و اختار العزلة في زمانه اما في ابتدائه او في انتهائه . " و عنه عليه السلام " ان قدرت ان لا تخرج من بيتك فافعل فان عليك في خروجك ان لا تغتاب و لا تكذب و لا تحسد و لا ترائي و لا تتصنع و لا تداهن " و عن الرسول صلى الله عليه و اله و سلم " الزم بيتك و امسك لسانك " الى غيرها من الاحاديث الكثيرة . و في زماننا حيث التسارع و التكاثر لا يسع الانسان ان يجلس و يتفكر في اموره المصيرية فهو دائما في شغل او في لهو ، و هذه النقطة بالذات هي من اسباب اهتمام الرجل الغربي بحياة الرهبنة الشرقية فهي تضفي نوعا من الهدوء و السكون الذي لم يعتده في حياته الغربية السريعة. و اما البعض من الذين يقولون بأن الاسلام يختار الطريق الاجتماعي فيُرد عليهم اولا بان العزلة هي طريق لتهذيب النفس و لا يمكن الوصول الى مراحل متقدمة في تهذيب النفس بدون العزلة و لو مؤقتا و احرى بمن يريد خدمة مجتمعه ان يخدم نفسه اولا بتزكيتها كي لا يقع لاحقا ضحية لانانيته و طموحاتها و لا يكون لعبة تتقاذفها السياسة و المداهنات .ثانيا الطريق الاجتماعي افضل من العزلة في حالة ان يأتي الرجل بكل ما على الطريق الاجتماعي من التزامات و ان يتجنب كل ما يجب اجتنابه كما اشار الحديث السابق و من ينظر الى حال مجتمعنا حتى على مستوى اكابره يعرف اننا لا نقوم بحقوق الطريق الاجتماعي من الالتزامات و النواهي . هذا الاشكال هو نفسه ما يقال عن انتظار الفرج فإنك ترى من يتهم الانتظار بأنه هروب من الالتزامات الاجتماعية و سلبية تعطل الفرد و ما الى ذلك و لكن من يعرف فلسفة الانتظار يدرك تماما لماذا تعتبره الاحاديث افضل العبادات فالمنتظر للفرج هو في طور الاستعداد و الترقب لذلك عدته الاحاديث الواردة انه بمثابة المجاهد مع قائم آل محمد صلى الله عليه و اله و سلم ثم الا يكفينا ردا على هذه الشبهات السطحية قوله تعالى " و انتظروا اني معكم من المنتظرين " ؟

دمتم في الرضا ،