:: كل المقالات ::

Sun, 23 Jun 2019

هيبي - لباولو كويلو

بسم الله الرحمن الرحيم

العمل الاخير لباولو كويلو الكاتب البرازيلي الشهير ربما يحمل عنوانا غريبا على القارئ العربي فماذا تعني كلمة " هيبي " ؟ كلمة هيبي - الباء هنا حقيقة حرف P – تطلق على كل من ينتمي الى حركة عالمية متمردة كان أوجها في الستينات من القرن الماضي . مهما يكن لهذه الحركة من سلبيات و ايجابيات فإن كويلو كان من افرادها و يبدو ان هذا الكتاب بمثابة عربون امتنان لتلك الحركة التي قدمت له الكثير . كما اشرنا هذا العمل يعتبر حاليا اخر اعمال هذا الكاتب الكبير الا انه يعتبر اول اعماله بالنسبة لي فإني لم أقرأ شيئا من رواياته المشهورة حتى "الخيميائي" و ان كانت توجد لدينا نسخة منها في مكتبتي الشخصية. على هذا يبدو واضحا انني قرأت هذا العمل لانه عن الهيبيز و ليس لانه من اعمال كويلو ، و قد كنت حقيقة اريد قراءة عمل عن هذه الطائفة و لكن ليس ما دوّن عنها في الموسوعة الحرة او ما تجده متناثرا هنا و هناك ممن عاصر هذه الظاهرة . نعم كنت اريد شيئا شموليا متكاملا و يحكي الواقع كما كان ، فأنت قد تقرأ بل و تكتب مقالات و ابحاث عن المخدرات و آثارها و اضرارها بناءً على ما تجده من ابحاث علمية و ما الى ذلك و سيبقى كل شيء مجرد افكار و نظريات و لكن قد يأتي شخص فيعيش تجربة المخدرات بنفسه فهذا الاخير يعرف عن المخدرات اكثر من الاول لهذا يقال " اسأل مجرب و لا تسأل خبير".
عودا الى هذا العمل فهو عبارة عن جزء من السيرة الذاتية لكاتبنا المرموق عاش تفاصيلها حقيقة في الستينات كما ان شخصيات القصة ايضا اشخاص حقيقيون الا انه غير بعض الاسماء كما يذكر. و قد اختار ان يحكي القصة بلسان الشخص الثالث فتراه يتكلم عن باولو كما يتكلم عن كارلا و ميرث و هذا القرار اذا لم تخني الذاكرة اتخذه من اجل اعطاء فرص متساوية للشخصيات بدلا من التركيز على باولو نفسه و يبدو لي ان قراره كان في محله اذ انه بهذا حول الكتاب من عمل اشبه بالسيرة الذاتية الى رواية فنية. و قبل ان نتغوغل في التفاصيل لنلخص القصة فنقول انها حكاية شاب برازيلي يتعرف على فتاة يوغسلافية تكبره بسنوات و يسافر معها في بلدان امريكا الجنوبية كعاشقين من الهيبيز و يبدو ان الكاتب كتب عن هذه الفترة كمدخل الى الحدث الاهم في القصة الا و هو سفره الى امستردام عاصمة الهيبيز في اوروبا. في هذا الفصل الثاني يتعرف على فتاة هولندية تدعى كارلا و بعد فترة قصيرة من استكشافه لامستردام تقوم كارلا باستدراجه لمرافقتها في رحلة بالحافلة الى النيبال . و يحكي الفصل الاخير الاحداث التي يمر بها ركاب هذه الحافلة و هم يتنقلون من دولة الى اخرى . هذه الرحلة تختلف عن بقية الرحلات فابطالها لا يريدون استكشاف العالم الخارجي في المرتبة الاولى بل يريدون استشكاف انفسهم و ذلك من خلال استشكاف العالم من حولهم ، قوله تعالى "سنريهم آياتنا في الافاق و في أنفسهم حتى يتبين لهم انه الحق" .
هؤلاء الهيبيز حقيقة شيء عجيب لا يستطيع الشخص ان يحكم عليهم بسهولة فوجهة النظر السائدة عنهم هذه الايام انهم كانوا اشخاصا متمردين لا يعيرون لقيم المجتمع و تقاليده اي اهتمام و انهم كانوا اباحيين ، فوضويين ، مدمنين ، لا يستحمون بل ينامون في العراء ، يرقصون و يلبسون الملابس المزّهرة فاقعة الالوان . لا غرو ان كانت العوائل المحافظة في ذلك الزمان تمنع ابناءها من الانخراط في هذا السلك الذي تحاربه الحكومة و يحاربه الاعلام اذ انه يصوره على انه جيل انحلالي فقط لا غير . لكن هؤلاء الهيبيز انفسهم كانوا يدعون الى الحب و السلام العالمي و يحاربون استعباد الشركات للموظفين و يثورون على تقاليد المجتمع الصارمة . و كانوا يحاربون المادية و الاستهلاكية و يدعون الى حياة اشتراكية و لذات روحية هذا اضافة الى دعوتهم للتعايش السلمي مع البيئة و السفر و استكشاف الذات . لهذا ربما يمكن تصنيف هذه الحركة على انها ردت فعل مضادة للوضع العام في مجتمعاتها.
لسنتعرض شيئا مختصرا من افكار و قيم تلك الحركة المتمردة لمن هم جدد عليها :
- الثورة و تحدي المجتمع و السلطة : كانت ثورة على كل ما هو موروث و كل ما هو معتاد و تحد لكل شيء كان يقال عنه انه ممنوع. فنرى الهيبيز لا يقبلون بسيطرة الاهل على مستقبلهم فلا يقبلون بالدراسة الاكاديمية و الدخول في الكليات لدراسة التخصصات المملة ثم الحصول على وظيفة اشد مللا و روتينية في شركة من تلك الشركات الكبيرة ثم الزواج و حياته النمطية ثم انتظار الموت . انهم يريدون حياة منفتحة خلاقة تتيح لهم البحث عن احلامهم و تحقيق ذواتهم. اعتقد انهم كانوا يتمتعون بشجاعة كبيرة حيث اعترفوا بلغوية و عبثية الحياة الاستهلاكية الميكانيكية التي نعيشها الى يومنا الحاضر فرفضوا ان ينخرطوا في حياة لا يؤمنون بها . اما نحن في هذا الزمن فيبدو اننا استسلمنا للامر الواقع و رضينا بتمثيل ادوارنا بصمت في وظائف روتينية تستنزفنا الشركات و الحكومات فأصبحنا نعيش لنعمل و غاية احلامنا امتلاك بيت العمر و الموت بعد حياة مستمرة من المعاناة و الكد على العيال . اما سبب ثورتهم على السلطة و الحكومة فواضح .
- الفنون : اشرنا الى انهم يريدون الانفتاح و الابداع و الحياة الخلاقة و هذا يتناسق مع الحياة الفنية من كتابة و شعر و غناء و رقص اكثر من تناسقه مع حياة الكوربرت و الهندسة و القانون و كل ما هو ميكانيكي . نعم لقد تركوا اثرهم و بصمتهم على الفن منذ تلك الفترة و الى الان و لكن بما انني لست مهتما بالفن فلا استطيع الاسترسال هنا .
- المعيشة المشتركة : كان الهيبيز يدعون الى حياة بسيطة و قريبة من الطبيعة متأثرين بأفكار امثال دويجينس من المدرسة الكلبية و ثورو من المدرسة المتعالية ، لهذا تراهم ينامون في العراء او في حافلات صغيرة و لا يملكون الا القليل من الممتلكات . و قد قرأت انهم كانوا يدعون الى الحياة المشتركة ، ربما شيء شبيه بالاشتراكية المعروفة لكن لا اعلم لأي مستوى وصلوا في تطبيق هذه الفكرة . على كل حال فكرة الحياة المشتركة طبقت في اماكن مختلفة و في ازمنة مختلفة و لكنها جميعا باءت بالفشل و انتهت نهايات مأسوية في الصين و روسيا و في امريكا (تجربة روبرت اوين ، و جونز تاون). و شخصيا اعتقد انها فكرة مثالية مخالفة للفطرة و غير ممكنة التطبيق عمليا و ضررها اكثر من نفعها و سيساء استخدامها حتما كما رأينا كرارا.
- الاسفار : في ثقافة الهيبيز السفر خير طريق لاستكشاف العالم و النفس فأصبح السفرعندهم بمثابة الحج فتراهم يسيحون في الارض و ليس لديهم الا حقيبة على الظهر بحثا عن المعرفة و التجارب الجديدة. في زماننا الاسفار ايضا اصبحت اشبه بالوجبات السريعة بمعنى انها غير مشخصنة لكل فرد بل تفصل بمقاس تجاري و ان وجدت السفرات المشخصنة تراها لا تتمتع بالخصائص التي تعطي السفر قيمته الحقيقية فشتان بين السائح العادي ممن همه الاستمتاع المادي و الجسدي و دخول ذاك "المول" و ذاك الشاطئ و بين المسافر بحثا عن الذات و التجارب الجديدة .
- العقاقير : اشتهر الهيبيز بتعاطي المخدرات و الحشيش و كل ما له شأن في اذهاب العقل الا انهم يزعمون ان الامر لا يصل الى الادمان عندهم في خصوص الاعشاب الروحية و انهم يتعاطون هذه الامور للوصول الى نوع من التجرد. على كل حال الكلام هنا لا معنى له و لم يستطع الهيبيز ان يصلوا الى تقدم في هذه النقطة فالدول كلها الان تمنع هذه الامور.
- الحياة الروحية : ذكرنا ان اهتمامهم بالسفر و الحياة البسيطة و متابعة الاحلام و ما الى ذلك انما هو وليد البحث عن الذات تلك الذات التي غابت في زمن الرأسمالية . فنرى ان الهيبيز يمارسون كل ما هو شرقي من طقوس هندوسية ابتداء بالفيدنتا و انتهاء بهاري كريشنا اضافة الى طقوس البوذية و تأملاتها بل حتى الطقوس الصوفية و سيأتي الكلام عن الصوفية تباعا . فقط اشير هنا الى مسألة وحدة الاديان و ان الهيبيز كانوا لا يتحرزون من تجربة و اعتناق اي دين في رحلة البحث عن الحقيقة فهم كانوا على ما يظهر يؤمنون بتعدد الطرق و وحدة المقصد.
- العري و الحياة الجنسية : ان من نتائج الثورة على الموروث و التقاليد الانفتاح التام في مسألة العري في الاماكن العامة و الجنس المفتوح و دائما اشير الى ان الغرب كانوا يتمتعون بمقدار من الحشمة و العفة الى ان جاء الهيبيز في الستينات فغيروا كل شيء. و مع الاسف فإن اكبر تقدم للهيبيز كان في هذه الجبهة فترى ان تأثيرهم أخذ العالم الغربي كليا الى يومنا هذا .
لنعد الى الكتاب ففي البداية نرى ان كويلو يهدي هذا العمل الى شخصيات تاريخية كان لها الاثر البالغ في تكوين شخصيته الفكرية و الروحية و هؤلاء هم : كبير ، مولانا ، طاغور ، حافظ و بولس . و من مجرد النظر الى هؤلاء الاسماء نعرف اهتمامات هذا الرجل و الى ماذا يحاول ان يصل و لكن هناك امر غريب في هذه المجموعة . ان كبير و مولانا من سنخ واحد فهما شاعران صوفيان يدعوان الى الحقيقة الباطنية للاديان و هي شيء وراء الطقوس الظاهرية الخاصة بكل دين و كذا طاغور الشاعر الهندوسي الذي عرف قديما بمحاولاته الجبارة في انشاء جيل يتعلم من كل الثقافات و يجمع الشرقي بالغربي و اما حافظ فهو و ان كان شاعرا صوفيا يتغنى بمعشوقه الا انه ربما ليس لديه ذلك النفس الوحدوي على مستوى الاديان ، على الاقل ليس بالشكل الذي يطرحه كبير و امثاله. يبقى بولس و هنا مربط الفرس فالرجل و لو تجاهلنا كل النظريات التي تعتبره محرف الدين المسيحي الا انه من الوضوح بمكان انه ليس من سنخ بقية الاسماء فلست ادري لماذا رمى بهذا الاسم في المجموعة .
التأثر الصوفي يبدو واضحا فمنذ دخول كويلو الى تركيا و هو يبحث عن الدراويش و كلنا يعلم ان تركيا مشهورة باولئك الدراويش الذين يدورون على انفسهم فيرقصون و يرقصون حتى يصلوا الى مرحلة من الغيبوبة في المعشوق. في فترة توقف الحافلة في اسطنبول يبدو ان الكثير من ابطال القصة يصلون الى مرحلة مميزة من استكشاف النفس فهناك "ماري" التي تعيش اول تجربة لتعاطي الـ LSD و "كارلا" التي تصل الى فهم جديد لمشاكلها النفسية و لكن اهم المتحولين باولو نفسه فهو يتعرف على رجل صوفي من اصول فرنسية فتبدأ رحلة باولو مع التصوف . هناك حوارات قصيرة بين باولو و الصوفي يجيب فيها الصوفي على اهم اسئلة باولو و لكن سنكتفي بذكر مقطع قصير – مع التصرف - من تلك الحوارات يبدأ بسؤال باولو " و لكن انت يا سيد كنت قد احتجت الى معلم ؟ " ، فكانت الاجابة نعم كان لي ثلاثة من المعلمين لكنهم لم يكونوا مسلمين . اما الاول فلص اذ كنت عدت متأخرا الى منزلي في ليلة من الليالي فلم استطع فتح الباب و عندها مر بي رجل فطلبت منه محاولة فتح القفل ففتحه بخفة و مهارة فطلبت منه ان يعلمني كيف يفتح الاقفال ثم اني دعوته للمبيت في منزلي فبقي مدة شهر من الزمن . في كل ليلة عندما كان يريد الخروج كان يقول لي انا خارج لعملي استمر على صلواتك و تأملاتك ، و قد كنت اساله عندما يعود هل تحصلت على شيء هذه الليلة فكان يقول لا و لكن الليلة المقبلة ان شاء الله . هذا اللص كان سعيدا في كل ليلة يخرج فيها و ان لم يبلغ مراده فتعلمت منه الصبر و المثابرة و اني و ان كنت لم اصل الى شيء بصلواتي في تلك الفترة الا انه مع الاصرار سأصل الى مرادي في يوم ما . المعلم الثاني كان كلبا فقد كان واقفا بجانب النهر يتلظى من شدة العطش و لكنه كلما اقترب من النهر وجد انعكاس صورته فخاف و تراجع و بدأ بالنباح و لكنه عندما آيس من تنحي الكلب الاخر قرر القفز رأسا في الماء . و اما المعلم الثالث فقد كان طفلا اذ كنت ذاهبا الى المسجد فوجدت احد الاطفال و بيده شمعة فقلت له من الذي اشعلها لك ؟ قال انا الذي اشعلتها فقلت هذا اللهب لم يكن موجودا قبل ان تشعله فمن اين جاء ؟ فما كان من الطفل الا ان اطفأ الشمعة و سألني و انت يا سيدي هلا تخبرني الى اين ذهب اللهب عندما انطفأت الشعلة ؟
اما من الناحية الفنية فلا يوجد الكثير ليقال هنا فالكاتب كان مهتما بالمحتوى و الرسالة فلا نراه يطيل في وصف الاحداث فضلا عن الاشخاص و الاماكن بل لا تراه يتلاعب بتقنيات ادبية انما نسق سردي سريع و هذا ما جعل العمل ممتعا بالنسبة لي و شجعني على فكرة الاستمرار في قراءة شيء من اعماله فلربما اقرأ روايته الاخرى " الحج " . ختاما يمكنني القول ان بولو قد وفى لاصدقائه الهيبيز في هذه الرواية فهو لم يترك شيئا من قيمهم و عاداتهم الا و قد تناوله في هذا العمل فقد استرسل مثلا في وصف تجربة الهروين و الـ LSD ، الا اني اقدر فيه عدم استرساله في وصف الجانب الجنسي و العري عند هذه الفئة و حتى عندما يشير الى واقعة حميمية بينه و بين صديقته انما يشير اشارة عابرة قد تكون مختصرة بجملة او جملتين فلا يسترسل مثل بعض الكتاب الاخرين – احم احم موراكامي- . و يحسب لكويلو ايضا صراحته فهو بشجاعة جميلة يذكر المواقف التي كان فيها جبانا مرعوبا او انه كان سيئا في الممارسة الحميمية ، الامور التي لن يجرا كاتب اخر على ذكرها. نعم يبدو لي ان كويلو من المشاهير القلائل الذين بقوا مخلصين لقيم و روح الهيبيز الى وقتنا الحاضر فإنه لم يعد كما عاد الكثير منهم الى الحياة الطبيعية بعد ذهاب ريح تلك الايام .


ملاحظة : لا يفهم من هذه المقالة اني من المعجبين بهذه الحركة او اني ادعو للقراءة في تراثها فكل ما هو ايجابي فيها موجود بشكل اكثر نضجا في مدارس و حركات اخرى. و اما السلبيات فهي كثيرة تجعل من عملية البحث في تراثهم عملية غير ذات جدوى و لربما اجدني اقرا مثل هذا العمل من اجل المساعدة في فهم بعض الاشارات التي توجد في اعمال ادبية اخرى تجاه هذه الحقبة الزمنية الانتقالية.

دمتم في الرضا ،