:: كل المقالات ::

Thu, 03 Jan 2019

عن " الآباء و الأبناء "

بسم الله الرحمن الرحيم

أخيرا قرأت رواية الآباء و الابناء للكاتب الروسي إيفان تورجنيف بعد ان بقيت في المكتبة يعلوها الغبار لسنوات و سنوات . هذه الرواية التي كتبت في اواسط القرن التاسع عشر قد تعتبر اول رواية روسية حديثة و تتمتع بمكانة مرموقة في تاريخ الادب الروسي . الصفحات الاولى كانت غير مشجعة تماما لصعوبة و كثرة الاسماء الروسية بل ان الكاتب زاد من صعوبة الامر فهو قد يتكلم عن شخص ما بثلاثة اسماء ، فمثلا هناك شخص اسمه اركادي نيكولايفيتش كيرسانوف فهنا تورجينيف قد يذكر الاسم كاملا او يكتفي بالاسم الاول و الثاني او يكتفي بالاول او حتى بالاوسط او يأتي بالاسم المختصر اركاشا و هلم جرا مع بقية الشخصيات . اضف الى ذلك ان الكاتب لم يدخر جهدا في ذكر اعلام تلك الحقبة من الكتاب و المفكرين و الكتب و المجلات و السياسيين من روس و غيرهم، لكن ما يهون الامر ان هذه الطبعة تحتوي على هوامش تعريفية بالاسماء و مع قليل من الصبر ستبدأ القصة بنفث سحرها و ستبدأ المتعة الى نهاية القصة .

قبل الاسترسال لنذكر شيئا من أحداث القصة فالاحداث تدور حول شخص اسمه يفجيني فازيليفتش بازاروف حيث يأتي مع صديقه اركادي لزيارة مزرعة والد هذا الاخير . في هذه المزرعة يسكن نيكولاي و بول و هما اب و عم اركادي و من ثم نعرف ان هناك شخصية رئيسية ثالثة في المكان تدعى فيودوسيا فينشكا نيكولايفنا و هي ابنة كبيرة الخدم السابقة فبعد ان ماتت امها اتخذها نيكولاي عشيقة له و انجب منها ابنا . بعد اقامة ليست بالطويلة في المزرعة ينتقل بازاروف و اركادي الى اماكن مختلفة و نتعرف على شخصيات مهمة جديدة من مثل كوكشينا نصيرة المرأة و ستنيكوف تلميذ بازاروف و نتعرف لاحقا على والدي بازاروف فازيلي و ارينا و اهم من الجميع مدام اودينتسوفا و اختها كاتيا . هذه اهم شخصيات الرواية و الا الشخصيات الثانوية كثيرة و اما احداث القصة فهي تتطور باتجاهات مختلفة فهي و ان كانت تتطور في احداثها الدرامية التي تنتهي بالتراجيديا الا ان التطور الحقيقي و الذي يميز هذه الرواية ليس في الاحداث الخارجية و انما فيما يحدث في باطن الشخصيات من صراع يؤدي في نهاية المطاف الى تغيرات جذرية في مشاعر و مبادئ ابطالها .

في فترة كتابة الرواية روسيا لم تلتحق بعد بركب التطور الاوروبي بل كانت تعيش مرحلة انتقالية و مصيرية و كانت الصراعات بين جبهات متعددة و في هذه الرواية بطل القصة بازاروف يعتبر نهيلستيا " عدميا "و نرى تأثيره القوي على الجيل الشاب – اركادي و ستنيكوف مثلا – و هذا بطبيعة الحال يجعله في تصادم مع الليبراليين – بول و نيكولاي كيرسانوف مثلا – من جهة و مع المحافظين من جهة اخرى – والديه مثلا-. الليبراليون معروفون حتى في زماننا هذا و هم الذين يدعون الى الحرية و المساواة و هم متفقون مع النهلستيين في وجوب الالتحاق بالركب الاوروبي و تبني تجربته الا ان هناك فوارقا كثيرة بين الفريقين . ان تورجينيف قد يعتبر المسؤول الاول عن ترويج مصطلح " النهلستية" الذي وضعه سابقا الالماني فردريك جاكوبي ، و في الرواية يمثل الخط النهلستي بطل الرواية بازاروف و هو طالب طب و شاب مندفع يتمتع بكاريزما تأسر كل من يحتك به على الرغم من فظاظته في بعض الاحيان . اما خط الليبراليين فيمثله نيكولاي و بول كيرسانوف و على مدى الرواية يشتد الجدال بين الفريقين حيث ان بازاروف النهلستي يتحدى كل القيم و الاعراف و يصرخ بثقة " لا لكل اشكال السلطة" و يهزأ جهارا من الفنون و من بوشكن رمز الهوية الشعرية الروسية . ان بازاروف لا يؤمن حتى بالحب و التعبير عن المشاعر ، انه ببساطة لا يؤمن الا بالعلوم الطبيعية و الامور العملية. الليبراليون في الجهة الاخرى يؤمنون بوجوب محاكاة التجربة الاوروبية الا انهم لا يقبلون باندفاع و خشونة النهلستيين فالتغيير عند الليبراليين يأتي بشكل تدريجي بخلاف النهلستيين الذين يرون ضرورة استخدام القوة لاحداث التغيير بل ان من مفكريهم من يرى ان لهم حرية استخدام اي طريقة مناسبة للوصول الى الغاية و تبريره هو ان كلا من الحكومة و الكنيسة تستخدمان كل وسيلة لتحقيق غاياتهما فعليه يحق لمن يريد ان يحارب سلطتهما ان يستخدم كل وسيلة لتحقيق غايته . و لهذا نجد ان النهلستيين بدأوا بتشكيل الفرق التي تعمل على احداث بعض الاعمال الارهابية ان صح التعبير و تسعى لان تطيح بالنظام الحاكم من خلال اغتيال رأس الهرم .

في قبال من يدعون الى الاحتذاء بالنموذج الاوروبي يقف المحافظون و في درجة اعلى منهم الفرق التي تنضوي تحت مظلة ما يعرف بالسلافوفيليا و هي حركة فكرية تدعو الى الاحتفاظ بالهوية الروسية المميزة و الرجوع الى اصولها المبكرة و تنبذ التشبه بالغرب و تقليد تجربته فهؤلاء يرفضون الطريقة الاوروبية في الصناعة و الملبس بل قل نمط الحياة بشكل عام . و قد لفت نظري تشابه اسم السلافوفيليا بالسلفية عندنا و كلا الفريقين يدعو الى الرجوع الى السلف من الجيل الاول . والدا بازاروف قد يصنفان تحت مظلة المحافظين و ان كنت اعتقد ان والدته بالذات قد تصنف تحت مظلة السلافوفيليا لانها تؤمن بالاساطير و الخرافات الروسية القديمة فنراها تؤمن بالفأل و الطيرة و بشكل عام تعيش حياة على نمط الحياة السالفة و قد وصفها تورجينيف قائلا " في هذه الايام يندر ان ترى امرأة مثلها ".

يمكننا القول اذاً ان هذه الرواية تعتبر معركة بين الماضي و الحاضر بين جيل الاباء - كاتب الرواية يعتبر منهم - و جيل الابناء فهي تحكي صراع الهوية بين الجيلين فالجيل الجديد يتحدى و يسم الطريقة القديمة بالتخلف و في نفس الوقت الجيل القديم يصف نفسه بالاصالة و يرى ان الحداثة انما هي مجرد تذمر على الاعراف و القيم . هذا الصراع الازلي بين القديم و الحديث يتجلى في اشكال مختلفة على مر القرون و لكن هل يمكن الوصول الى حل منصف يترك حرية الاختيار لكل جيل و ما يراه مناسبا له؟ لنأخذ الشعر مثالا فلماذا يُفرض نمطٌ حداثوي معين لماذا لا تبقى حرية الاختيار بناء على الذوق الشخصي و القناعات؟ قد يقال ان الحرية فعلا موجودة و لا من اجبار في الموضوع و لكن هذا الكلام غير تام فالذي لديه ادنى اطلاع على الساحة الشعرية او الفنية بشكل عام يعرف ان هناك موجة معينة لا يمكن السباحة بخلافها . و ان كان صعب عليك تصور النقطة في الشعر فلنأخذ مثالا اكثر مباشرة ففي احدى المقابلات مع المخرج و الكاتب العالمي ودي ألن يسأل المقدمُ ودي لماذا لازلت تستخدم آلة طباعة يدوية قديمة و لم تنتقل الى الكتابة بالحاسب الشخصي؟ فهنا نرى ودي يحتاج الى ان يبرر موقفه و سبب بقاءه على تلك الالة مع ان الاصل هو انني لا احتاج الى تغيير نمط عملي و اداوتي فقط لان هناك تقنيات جديدة ، فالكتابة هي حصيلة تدوين الافكار و لا اهمية في الادوات التي نستخدمها لتدوين تلك الافكار. انا لا احتاج الى تبرير عدم استخدامي لمواقع التواصل او عدم استخدامي للهواتف الذكية اذا كنت افضل الحوسبة بالطريقة القديمة و هي تفي باحتياجاتي. و لكن كل من ترك استخدام هذه التقنيات و لو لفترة يعرف مدى توقع و ضغط الاخرين للعودة الى استخدامها فكأنه قد تحتم عليك لزاما ان تكون متواجدا على هذه المناصات على الاقل لكي لا تحتاج الى ان تعيد شريط تبرير عدم استخدامك لهذه التقنية او تلك . و هكذا نرى في ميادين اخرى من مثل البرمجة و التقنية كما عشنا و لامسنا فهناك دفع قوي باتجاه استخدام كل جديد و تهميش كل من لا يلتحق بالركب و ربما رميه بالرجعية و التخلف.

عودة الى الرواية أعتقد ان بازاروف و الذي يمثل نقطة الارتكاز في الرواية يعتبر التغيير او قل التجديد و بقية الشخصيات بمثابة ردة الفعل تجاه ذلك . مثلا :
اولا : اركادي ، الذي يمثل الجيل الشاب نراه يتقبل كل جديد و يندفع للدفاع عنه و هذا ما نراه جليا عند عودته الى مزرعة ابيه متبنيا اراء استاذه بازاروف و مدافعا عنها متحديا رؤى ابيه و عمه .
ثانيا : نيكولاي ، و هو الاب الذي يجد ان ابنه يفلت من بين يديه و لكنه لا يستطيع ان يفعل شيئا و يتقبل الموضوع على انه من سنن الحياة فنراه يسترجع خاطرة من ماضيه القديم فيتذكر انه في احد الايام اختلف مع امه بشدة و لم يستطع ان يقنعها فقال لها " انت لن تستطيعي ان تفهميني لانك من جيل و انا من جيل اخر " ، فعلى ذلك آن الاوان لكي يقول له ابنه انه من جيل غير جيله.
ثالثا : بول ، الذي يرفض ان يستسلم للامر الواقع و ان يؤمن بأنه " اغنية مضى زمنها " بل انه يرى ان هذا الجيل الشاب منسلخ من القيم و الاعراف و انه لا يستطيع تذوق الفن و لا يعرف قيمة المبادئ و الاعراف الاجتماعية . هذا الامر بطبيعة الحال يؤدي الى جدال و صدامات عنيفة مع النهلستيين .
رابعا : والدا بازاروف ، و اللذان يخشيان ان يتركهما ابنهما فلا يعبران عن مشاعرهما و اعتقاداتهما امامه فعليه يمكننا ان نقول انهما يعيشان انهزامية تامة امام التجديد و لا يجدان القوة اللازمة لابداء اي ملاحظة او اعتراض .
خامسا: مدام اودينستوفا ، و التي تنظر الى بازاروف نظرة فضول و دراسة فهي لا ترفض التجديد كليا و لا تقبله كليا بل انها اشبه بالمتفرج او المحلل عن بعد .
حقيقة المواضيع التي تناولها الكاتب في هذه الرواية كثيرة جدا و قد كنت آمل ان نستعرض بعضها بشيء من التفصيل و لكن يبدو انني سأكتفي بذكر بعض تلك العناوين فمن المواضيع التي تناولتها الرواية مسألة الماضي و الحاضر و مسألة التمدن و على اي شكل يجب ان يكون و هل التعلق بالماضي مصدر قوة او مصدر اعاقة و كذا جدوى الفن بل جدوى كل شيء لا يلتمس منه منفعة مباشرة. و ماذا عن الاعراف و التقاليد هل هي ذات قيمة ذاتية و ماذا عن كل هذا التعلق بالعلوم الطبيعية و رفض ما سواها من طرق تحصيل المعرفة ، و لا ننسى موضوع السلطة و هل هي سيئة بكل اشكالها و ماذا عن المؤسسات الاجتماعية و العوائل ؟
ان هذه الاسئلة و غيرها من الاسئلة المصيرية يجب ان تعالجها كل امة تريد ان تلتحق بركب الدول المتقدمة فهذه التجربة ليست تجربة حصرية لروسيا بل اننا نجد ان امما اخرى عاشت مثل هذه التجربة بل بشكل اعنف بكثير من مثل ما حصل في الصين و كيف دمر الشيوعيون كل أشكال التعلق بالتراث القديم فأُحرقت الكتب و هدمت المعابد و منعت الاديان. و الان نحن في بعض البلاد العربية و في بلادنا بالخصوص نعيش تجربة انتقالية و ان المواضيع و الاسئلة التي تعالجها الرواية ليست بعيدة عن واقعنا حقيقة فحتى موضوع تمكين المرأة الذي نعيشه الان و اختلفت فيه الاراء قد تناولته الرواية الى غير ذلك من الامور التي نعيشها او سنعيشها في المستقبل القريب . ربما قريبا علينا ان نختار فهل نسلك طريق فوكوزاوا في اليابان او طريق غاندي في الهند ؟..

دمتم في الرضا ،،،