:: كل المقالات ::

Tue, 13 Dec 2016

بين الكتب التقليدية و الكتب الالكترونية

بسم الله الرحمن الرحيم
هذا الموضوع محل نقاش و جدل مستمر في الاعلام المرئي و المكتوب و هو من المواضيع التي لم استطع ان اتخذ فيها موقفا مختارا . الكتب الالكترونية كانت موجودة منذ سنوات طويلة و لكن لم تسلط عليها الاضواء الا قبل سنوات قليلة عندما ظهرت اجهزة القراءة الالكترونية E-reader . القراءة لفترات طويلة من خلال شاشة الحاسب غير محببة فالجلسة متعبة و دقة الشاشة غير عالية بالاضافة الى الاشعاعات التي تتعب العين . لكن الاجهزة المخصصة للقراءة غيرت كل هذا :
- يمكنك ان تقرأ في كل مكان و على اي وضعية تناسبك .
- الشاشة بتقنية Eink مريحة للعين و مناسبة للقراءة الطويلة .
- هذه الاجهزة الصغيرة و الخفيفة يمكن ان تحتوي على مئات بل الاف الكتب .
- يمكنك ان تشتري الكتاب و تبدأ بالقراءة خلال دقائق معدودة .
- تأثيرها على البيئة أخف .
- يمكنك ان تشارك اصدقائك ما تقرا و يمكنك متابعة القراءة و التنقل بين الجهاز و الحاسب و الجوال .
- الاسعار عادة ارخص من الكتب التقليدية .
- لا تشغل اماكن كبيرة في الشقة او البيت كما تفعل الكتب التقليدية .
- سهولة البحث .
- وجود برامج مساعدة مضمنة مثل القاموس الفوري .
الى غير هذه من المميزات ، ما يجعل البعض يستغرب المقارنة اساساً و يعتبر المعركة محسومة لصالح الكتب الالكترونية. لكن الموضوع يحتاج الى تأمل اطول ...
لنبدأ اولا بمسألة توفر الكتب فالكتب الانجليزية المدفوعة عادة لا تباع للدول خارج الولايات المتحدة و خصوصا عندنا كدول عربية فالتشكيلة اقل بكثير ، و اما الكتب الاخرى فسيأتي الكلام عنها . اما الكتب العربية الى الان في الغالب غير متوفرة بصيغ مناسبة للاجهزة الالكترونية و اما صيغة PDF فهي غير مخصصة لهذه الاجهزة و تحتاج الى اجهزة اكبر للقراءة المريحة مثلا الايباد و لكن الايباد يدخلنا في مشكلة جديدة الا و هي ثقل الجهاز الذي يتعب اليدين في القراءة المطولة اضافة الى ان شاشته لا تعمل بتقنية Eink. اضف الى ذلك انه باستخدامنا للكتب المصورة بشكل PDF نفقد خاصية البحث . اما مسألة شراء الكتب من متجر امازون و غيره فلا احبذه لانني كما اسلفت في المقالة السابقة(1) فقدت حسابي و مع فقدان حسابي خسرت كل كتبي التي اشتريتها عن طريقهم . و فكرة ان التزم مع شركة معينة فكرة غير مناسبة بالنسبة لي فماذا لو اردت غدا الانتقال الى منصة أبل او جوجل ؟ هذا اضافة الى بعض السياسات و القضايا التي تجعل الانسان في حذر من مثل قضية الكتاب الذي قامت امازون بحذفه من جهاز احدهم . يمكن ان يقال هنا بإمكانية الاكتفاء بالكتب المجانية و عدم الالتزام بالشراء من اي شركة تقدم هذه الخدمة كأمازون و أبل و جوجل و لكن هذا الخيار هو حل جزئي للمشكلة و ماذا لو اردت ان اقرا كتابا مدفوعا ؟
اما الاسعار فلا اجدها واقعا ارخص بكثير فهذه الكتب الالكترونية من المفترض انها لا تحتاج الى تكلفة صنع الكتب التقليدية فلماذا تكون اسعارها مرتفعة هكذا ؟ هذا فضلا عن انني عندما اشتري كتابا تقليديا فإني فعلا اشتري شيئا ملموسا يمكنني الاحتفاظ به او بيعه او تأجيره او اعارته او هبته كما اشاء . اما الكتب الالكترونية فتخضع الى سياسات تقيد حرية التحكم بها فضلا عن انها واقعا اشياء وهمية فكما اسلفت عندما فقدت حسابي لم اعد املك ايا من الكتب التي اشتريتها . مسألة التنقل و حمل الجهاز فعلا مفيدة و لكن فوائدها قد تكون مبالغة في احيان كثيرة فهل واقعا انا محتاج لان احمل معي مئات من الكتب لسفرة قصيرة او نزهة قريبة؟ عادة كتاب او كتابان يكفيان . ثم ان القراءة تحتاج الى مزاج معين او ما يعرف بـ " المود " و لا تصلح في اي مكان و اي زمان مثلا في طوابير الانتظار فعادة الناس لا تستخدم هذه الاوقات لتقرا صفحة او صفحتين من كتاب و انما تكتفي بلمحة على الرسائل و التويتر و غيرها هذه الاشياء التي يمكن ان نطلع عليها في اوقات تكثر فيه المقاطعة و الازعاج .
و اما مسألة المساحة فعندما تقرأ في مقالات المنتقدين للكتب التقليدية تجدهم عادة يركزون على هذه المسألة و لكن مرة اخرى لا يجب الخلط فهم يتكلمون عن بيئة مغايرة فهم يعيشون في شقق صغيرة و الاماكن محدودة و لكني شخصيا لا اعاني من هذه المشكلة و لله الحمد. ثم المكتبة لا تبدأ بأخذ اماكن كبيرة الا عندما تكون حقا مكتبة عملاقة و لكن في الغالب المكتبات الشخصية مكتبات صغيرة الى متوسطة و لا تحتاج الى تلك المساحات الكبيرة .
اما مسالة القراءة الفورية بحيث انه مع انتهاء عملية الشراء يمكنك الشروع في القراءة ، فاجدها خاصية غير جيدة لان تسهيل عملية الشراء هي خطوة تسويقية بحتة اذ ان الانسان حينها يبدأ بالشراء بناء على الرغبة الفورية و ليس بناء على الدراسة و البحث و هكذا قد يندم على شراء بعض الكتب لاحقا او حتى لا يقراها لانه فقد تلك الرغبة و الاهتمام بعد عدة ايام . لذلك وجب التريث و التمهل عند مواجهة هذه الرغبات لنعرف هل هي رغبات واقعية لها ضرورة و فائدة ام هي مجرد رغبات وقتية فالاسعار الرخيصة و سهولة الشراء تساعد على النمط الاستهلاكي و الفكر السطحي.
المسألة الجديرة بالتأمل هي مسألة التأثير على البيئة و النظر الى عملية صنع الكتاب الورقي ككل و ملاحظة كل من الطاقة و الجهد و الاشجار و النقل و الطباعة و احيانا الجلد المستخدم للتغليف . هنا فعلا اجد ميزة جيدة للكتب الالكترونية و اجد ان الكتب الموسوعية ربما من الافضل ان تكون الكترونية لانها اساسا كتب للبحث و الاطلاع المتفرق و ليست تُشترى للقراءة الكاملة و لكن الكتب المفردة و الدراسية اجدني افضلها ورقية لسهولة التنقل بين الصفحات و سهولة التعليم و كتابة الملاحظات . و للحد من التأثير البيئي للكتب التقليدية يمكن القراءة في المكتبات العامة او الاستعارة من الاصدقاء او شراء الكتب المستعملة . هذا بالاضافة الى ان الاجهزة الالكترونية لها تاثيرها على البيئة خاصة فيما يتعلق بالطاقة المصروفة و السوائل السامة و قد قرأت احصائيات مختلفة و لم اصل الى الان الى نتيجة مؤكدة و لكن لو تكلمنا عن اجهزة الكمبيوتر و السيرفرات التي تساند عملية القراءة الالكترونية بشكل عام فالتأثير واضح جدا . التوسع في هذه النقطة لا يناسب المقالة و لكن لا بأس بالبحث عن كلفة تشغيل السيرفرات و تبريدها و ايضا لا بأس بقراءة هذه المقالة كبداية :
http://www.resilience.org/stories/2009-07-29/monster-footprint-digital-technology
من الامور اللطيفة التي قراتها قبل كتابة المقالة هو ان احدى الكاتبات تدعي ان ما يجعل الاشخاص يتمسكون بالكتب التقليدية هو دافع الظهور بمظهر المثقف فمن منا لا يحب ان ينظر الى مكتبته و يقال ما شاء الله كم انت مثقف ؟ حقيقة تساؤل جدير بالتفكر و اضطررت ان اواجهه فسألت نفسي هل هذه المكتبة الغرض منها هو الظهور بمظهر المثقف ؟
من النقاط التي دائما تشغل بالي هي مسألة الاعتماد الكلي على التقنية فنقل القراءة كليا الى العالم الرقمي يزيد من ادماننا للاجهزة الاكترونية و نحن في غنى عن مزيد من الادمان ! شخصيا اجد حرجا شديدا في القراءة الالكترونية امام اطفالي فمهما يكن هؤلاء الاطفال لا يعلمون ما يقرا ابوهم و انما قد يظنون انه مشغول كما بعض الناس بتمضية الوقت على هذه الاجهزة . هذا بخلاف وجود غرفة او مكتبة مخصصة في البيت يعرف الاطفال ان هذا مكان مخصص للقراءة فتنمي عندهم بشكل مباشر و غير مباشر الرغبة للاطلاع و القراءة خاصة عندما يجدون احد الابوين ملازما لهذه الخلوة في هذه الغرفة . واقعا الا يوجد فرق عندما تقول لطفلك هذه المكتبة الصغيرة و الاقلام لك كي تقرا و تكتب او ان تعطيه جهازا الكترونيا كالايباد و تقول له اقرا و تعلم الا يحتمل ان تصرفه الالعاب و غيرها؟ نعم لا يمكن انكار ان الاجهزة الالكرتونية و الجوالات قد تستخدم للقراءة و لكن في اغلب الوقت هذه مشتتات عن القراءة فلا تكاد تمسك الجهاز للقراءة الا و تسرقك تنبيهات مختلفة من بريد و اتصال و واتس و متابعة رابط و غيرها .
هذا لا يعني اني كتبت المقالة كي انتصر للكتب التقليدية و لكن اجد ان المسألة يجب ان تدرس بشكل اكبر و ان على كل شخص ان يجد احتياجاته الحقيقية فلا يشتري الجهاز الالكتروني بناءً على اعلانات او مقالات لا تمس حاجته الشخصية مثلا من النقاط التي تستخدم للترويج لهذه الاجهزة مسألة انك تستطيع القراءة تحت اشعة الشمس و انت مستلق على الشاطئ ، فلربما مثلي لا يذهب الى البحر الا كل كذا سنة مرة . او ان الجهاز له اشعاع ذاتي يمكنك من القراءة و انت في فراشك كي لا تزعج شريكك فلربما انني لست مهووسا بالقراءة لهذه الدرجة او ببساطة يمكنني الذهاب الى غرفة اخرى ! و هكذا بقية المغريات التي تستخدم لتسويق القراءة الالكترونية .
في النهاية قد يقول البعض خير الامور اوسطها و هو المزاوجة بين القراءة التقليدية و الالكترونية و هذا حل لا بأس به الا انه لا يخلو من العيوب . العيب الاول ان الناس و الشركات و المؤسسات التعليمية اذا استخدمت هذه الطريقة فلن تقلل من التأثير البيئي الامر الذي يطبلون له . لنأخذ مثالا بسيطا فالشركة العملاقة التي اعمل لديها ادخلت الحاسب و نظمه لتسهيل عملياتها الادارية و بهدف التقليل من المعاملات الورقية و الوصول الى معاملات خالية من كل انواع الورق . لا اعرف كم هي المدة التي رصدوها لهذه العملية الانتقالية بل أظن ان هذه الخطة قد نسيت فالان مضت السنوات و المعاملات الورقية لم تقل بشكل ملحوظ - على الاقل ليس في الادارات التي اتعامل معها - بل ان في مكتبي الذي اعمل به ثلاث طابعات من الحجم الكبير تستهلك كميات مهولة من الاوراق على مدار الساعة . فأجد الان ان الشركة اضافت الى استهلاك الاوراق استهلاك الطاقة بأشكالها المختلفة و اصبح تأثيرها البيئي مضاعفا.
العيب الثاني هو ان الانسان عادة يحب ان تكون كل مستلزماته في مكان معين و بترتيب معين فمثلا هل نحبذ شراء البرامج من متجر أبل و من متجر جوجل و من متجر امازون؟ بطبيعة الحال نحب ان تكون كل البرامج على منصة واحدة هكذا الكتب اجد انني لا احبذ فكرة التشتت بين مكتبة تقليدية و مكتبة الكترونية هي بدورها مشتتة فمثلا هناك مجموعة الـ PDF التي لا تصلح الا للقراءة من الحاسب و مجموعة كتب امازون المدفوعة و ربما مجموعات اخرى و من متاجر اخرى .

سبحان ربك رب العزة عما يصفون و سلام على المرسلين و الحمد لله رب العالمين
(1) طريقة حياة ريتشارد ستولمن