:: كل المقالات ::

Mon, 05 Nov 2018

مقتل روجر أكرويد

بسم الله الرحمن الرحيم

لا بأس بعد الاجازة من ان نفتتح الكتابة بمقال عن رواية قرأتها مؤخرا للروائية البوليسية الشهيرة اجاثا كريستي . تراث هذه الكاتبة ضخم جدا و قد اختلف في مسألة افضل اعمالها و لكن هناك اتفاق على عدد معين من الروايات . راجعنا من تلك الروايات المختارة مثلا رواية " ثم لم يبق احد " و من ضمن قائمة الترشيح دائما ما تتكرر رواية " مقتل روجر اكرويد " . هذه الرواية تعتبر من اوائل اعمالها فقد نشرت في عام 1926 و تعتبر اول رواية انطلقت بأجاثا كريستي في مسيرة الشهرة هي و ما رافقها من الاحداث التي احاطت فترة نشر هذه الرواية من اختفاء كريستي و طلاقها .
فنيا قدمت هذه الرواية الكثير لعالم الرواية البوليسية بل ان اعمال كريستي اللاحقة أخذت الكثير من استراتيجيات و تقنيات هذه الرواية. بدلا من الاطالة في ذكر التفاصيل سأكتفي بذكر نقطتين :
1- في هذه الرواية لا نرى كريستي كقاصة بوليسية فقط و انما نراها كمعالج نفساني لديه سنوات من الخبرة يغور في خبايا النفس البشرية . فقد عرضت كريستي شخصيات الرواية بعمق كبير جدا يندر ان نرى مثله في روايات بوليسية حتى ان بعض النقاد اطلق على كريستي لقب الحكيمة او العالمة بالنفس البشرية. هذا العمق في الشخصيات بطبيعة الحال ينعكس على القارئ فيرتبط و يتعاطف مع هذه الشخصيات النصف وهمية.
2- استطاعت كريستي في هذه الرواية ان تتلاعب بالاحداث و ان تغير مسير الاتهامات مرات كثيرة تفوق الحصر ثم ختمتها بالنهاية المميزة التي جعلت من هذه الرواية رواية صادمة بامتياز . و هذه النقطة بالذات هي ما خلد هذه الرواية و اي مطلع على الروايات و الافلام سيدرك بسهولة مدى تأثر الاعمال الفنية اللاحقة بها.

الغريب في الموضوع ان كاتبا فرنسيا باسم "بير بايارد" كتب كتابا كاملا يعيد فيه قراءة و تحليل هذه الرواية و ينتهي الى نتيجة مختلفة جدا عن نهاية اجاثا كريستي نفسها ! بعبارة اخرى ان الكاتب الفرنسي يصحح ما اخطأ فيه بوارو بطل القصة و يعيد رسم الاحداث بالشكل الصحيح الذي يتوافق مع رؤيته "التفكيكية " . الرواية التي تقع في 305 من الصفحات قرأتها عن اللغة الانجليزية و اجدها فعلا من افضل ما كتبت كريستي و لكني سأترك التفاصيل لمن يحب ان يقرأها و يعرف بنفسه و سأنتقل الى الكلام عن نقطة اخرى .

ان من يقرأ رواية مقتل روجر اكرويد لا يمتلك الا ان يقرأ مقالة بعنوان " من الذي يهتم بمعرفة قاتل روجر اكرويد ؟ " للكاتب و الناقد الامريكي الشهير " ادموند ويلسون " و الذي لمعرفة حجمه يكفينا ان نعرف ان دائرة المتأثرين به و بأعماله تشمل أمثال اف سكوت فيتزجيرالد . في الحقيقة هذه المقالة الشهيرة هي بمثابة الجزء الثاني لمقالة اولى كتبها ويلسون في اكتوبر 1944 بعنوان " لماذا يقرأ الناس القصص البوليسية ؟ " و قد لاقت المقالة الاولى اهتماما كبيرا اضطر الكاتب ان يعقب بالمقالة الثانية في يناير 1945 ليضع النقاط على الحروف . في المقالة الاولى يستغرب الكاتب هذا الاهتمام الكبير بالاعمال البوليسية و التي يبدو انها كانت اشبه بالموضة في تلك الايام لدرجة ان الكاتب يجد نفسه في مواقف محرجة مع اصحابه الذين يتكلمون في هذه الروايات فلا يمكنه المشاركة بابداء رأيه . لهذا يقرر الكاتب ان يعود لقراءة القصص البوليسية و يختار روايتين من أشهر ما كتب في هذا المجال و لكنه لا يستسيغ الروايتين و ينتقدهما نقدا مبرحا و يعمم ذلك النقد على فئة أدب التحريات . بطبيعة الحال هكذا مقالة لن تروق لقراء و محبي هذا الادب فتصل الكاتب رسائل تذمر و انزعاج من مقالته الاولى و يقترح عليه بعض القراء عناوين اخرى بحجة ان اختياراته لم تكن موفقه . و على هذا يحاول الكاتب ان يصحح المسار فيقرأ لكتاب اخرين من الذين اقترحهم القراء و مع ذلك تأتي المقالة الثانية لتعزز موقف ويلسون من ادب الروايات البوليسية فيهيل سيلا من الانتقادات على الاعمال التي قرأها باقتراح القراء .
طبعا لا يمكنني ذكر جميع ملاحظاته على الادب البوليسي و على كتابه و محبيه و لعلني قد تطرقت الى بعض تلك النقاط في المقالة السابقة عن اعمال موراكامي و لكن ادعو القراء الكرام الى اقتطاع جزء من وقتهم و قراءة المقالتين (1) . اما انا فسأختم بتعليق على نقطة اثارها منتقدو ويلسون فقد ذكروا ان ادب القصة البوليسية هو الادب الوحيد الذي لازال يتمتع بروح السرد القصصي . بعبارة اخرى انهم يقولون ان الاعمال الروائية الفنية في صورها الاحترافية اصبحت مثقلة بالرمزية المفرطة و الفلسفات الثقيلة و المبادئ النفسية المعقدة فلم يعد القارئ يستطيع ان يقرأ رواية طلبا للقصة و انما الرواية اصبحت مسرحا للتجارب اللغوية او شكلا من اشكال تمرير الرؤى الفلسفية . و قد رد ويلسون على هذه النقطة برده الموجود في مقالته ، اما انا فأقول :
لا يمكن انكار حقيقة ان الروايات الحديثة و ما يعرف بما بعد الحداثة اصبحت مثقلة و متأثرة بفلسفات بعيدة عن روح السرد القصصي الذي تتوق اليه نفس القارئ العادي . ان بعض الروايات اصبحت مطولة و معقدة لدرجة انها تحتاج الى دورات و شروحات خاصة بها بل ان بعضها وصل الى مرحلة ان الناس تتحدى من يستطيع اتمام قراءة تلك الاعمال . و لكن من الصعوبة الالتزام بالسرد القصصي الصرف في الروايات الطويلة فهذا أليق بالقصص القصيرة ، على ان القصص البوليسية هي بدورها لا تخلو من التطويل و قد اشار ويلسون الى تطويل كتّاب الفن البوليسي للافكار التي يمكن اختصارها في ثلاثين صفحة كما كان يفعل " كونان دويل". هذا من جهة و من جهة اخرى السرد القصصي الصرف - حينما يكون على شكل رواية كاملة 200 صفحة و اكثر - يضع جدوى قراءة العمل تحت السؤال .

----
(1) لقراءة مقالتي ادموند ويلسون في نقد ادب التحريات :
http://www.crazyoik.co.uk/workshop/edmund_wilson_on_crime_fiction.htm

دمتم في الرضا ،