:: كل المقالات ::

Mon, 15 Apr 2019

اجاثا كريستي بين البداية و النهاية

بسم الله الرحمن الرحيم

عدت مؤخرا إلى عالم اجاثا كريستي فقرأت اول رواية لها و المعنونة بـ " القضية الغامضة في ستايلز " و من ثم واصلت القراءة و كان من غريب الصدف ان الرواية اللاحقة كانت آخر رواية لهذه الكاتبة الكبيرة و كانت بعنوان "ستارة" او قضية بوارو الاخيرة . و قد اختارت الكاتبة مسرح الرواية الاولى -ستايلز- مسرحا للرواية الاخيرة فنرى ان بوارو يعود من حيث بدأ ليختم مشواره في عالم التحريات . هذا من ناحية المكان و لكن من ناحية الشخصيات لا نرى اي شخصية مشتركة بين الروايتين الا بوارو و صديقه المعروف هاستنجز و الذي يفترض انه اليد اليمنى لبوارو إلا أن دوره الرئيسي كما نعرف هو ان يكون القاص فيسرد احداث الواقعتين كما في غير ذلك من الروايات . اما الزمان فالرواية الاولى تقع احداثها اثناء الحرب العالمية الاولى و أما الثانية فلم تذكر الكاتبة سنة وقوع احداثها إلا أنه يمكن ان يفهم من الاحداث انها وقعت بُعيد الحرب العالمية الثانية و قد علمتُ لاحقا ان في النسخة السينمائية التي صورت في السنوات الاخيرة تم اختيار سنة 1949 م كمسرح للاحداث. إن رواية قضية غامضة في ستايلز تعتبر اولى اعمال اجاثا التي تم نشرها بعد جهد و معاناة اذ انها كتبت هذه الرواية كاستجابة لتحدٍ من اختها التي اصرت على انه لا يمكن ان تكتب اجاثا قصة بوليسية بحيث تخفي هوية القاتل الى نهاية الرواية . و فازت كريستي بالرهان فقد كتبت الرواية بشكل لا يمكن الاطمئنان الى هوية القاتل الى نهاية الرواية و هذا يظهر مدى عبقرية هذه الكاتبة التي من اول محاولة أثارت اعجاب الصحف و النقاد و الاوساط الادبية بهذه الرواية المتماسكة و المثيرة . أما الرواية الاخيرة فقد كتبتها كريستي ابان الحرب العالمية الثانية و ذلك لانها خافت على حياتها فأرادت ان تكتب رواية تكون مناسبة لشأن بوارو و تكون خاتمة المسيرة المهنية . الجدير بالذكر ان الكاتبة بعد الانتهاء من كتابة الرواية وضعتها في خزينة أحد البنوك لمدة تزيد على الثلاثين سنة و استمرت في كتابة الروايات بشكل طبيعي الى ان نشرت الرواية اخيرا قبيل وفاتها .
لن أحاول كتابة دراسة مفصلة للروايتين و لكن سأستعرض بعض النقاط التي وقفت عندها و اول ما يجب ان نقف عنده مسألة رفض دور النشر تبني رواية كريستي الاولى . هنا قد يأتي البعض ليقول ان في اصرار كريستي على نشر عملها و عدم استسلامها امام الرفض المتكرر درس لكل كاتب يحلم بالعالمية بأن يتحلى بالصبر و الثبات و ما الى ذلك من الكلام الحماسي و لكني شخصيا استفدت من هذه النقطة فائدة اخرى . اذ انه بعد قراءة الرواية الاولى ادركت ان هذه الكاتبة كانت قد وصلت الى مرحلة كمالها منذ البداية اعني ان التقنية و الاسلوب و التكنيك الادبي عند الكاتبة في روايتها الاولى لا يقل عن اعمالها المتأخرة بل انه يتفوق على كثير منها بشهادة النقاد، فمثلا طريقة السرد هي هي في العملين - اي ان هاستنجز يسرد الاحداث على شكل تقرير - و غير ذلك من النماذج الكثيرة الشاهدة على هذا المدعى نتركها لوضوحها. أعود و أقول بالرغم من وضوح عبقرية المرأة و ثناء كل النقاد بعد نشر عملها الاول نرى ان دور النشر لم تقبل ان تتبنى عملها و هذا يدل على ان المسألة هنا كما في مجالات اخرى مسألة تجارية بحتة تراهن على الاسماء في الدرجة الاولى . بعبارة اخرى ان الابداع وحده لا يكفي للاعتراف بعملك الفني بل يجب ان يكتسب اسمك ثقلا و ذلك من خلال اعتبارات و محسوبيات اخرى . هذا لا يعني ان عملها الاول خالٍ من الملاحظات بل هناك ملاحظات كثيرة منها بوجهة نظري الشخصية ان الكاتبة خلقت قضية معقدة جدا ثم احتارت في الدليل الاخير فكان ان أتت به في النهاية بشكل مخيب يعتمد على حُسن الصدف . و ايضا فيما يتعلق بهوية القاتل فالكاتبة و بكل احترافية تلاعبت بالقارئ و صدمته مرات عدة الا ان هناك من النقاد من ذكر انه تعرف على القاتل منذ البداية . على كل حال لا ارى جدوى من التعرض للتفاصيل الادبية فقد تناولنا بعض ذلك في مقالات سابقة فلنذهب مباشرة الى الرواية الاخيرة و نتعرض لبعض ما أثارته الكاتبة من مواضيع .
في الرواية الاخيرة نرى الديم اجاثا كريستي مختلفة عما اعتدنا عليه فهنا الكاتبة تترك القارئ في انتظار الجريمة لفترة طويلة جدا حيث تأخذ وقتها في بناء المسرح و الجو النفسي و لا تحدث الجريمة الا في الصفحة 158 - الرواية 240 صفحة - ثم تتوالى الاحداث بشكل سريع و كأنما الاهمية ليست للجريمة . في هذه الصفحات و الفصول الاولى تتناول الكاتبة مواضيع مصيرية لتتساءل عن مسألة الحياة و الموت و قضية كانت تشغل الرأي العام حينها و هي ما تعرف بالـ euthanasia . ان هذا المصطلح يشير الى مسألة ازهاق النفس الحية اذا كان الموت اكثر راحة لها من البقاء فالسؤال الذي كان يطرح وقتها هو لماذا يجوز لنا ان نجهز على الحيوان الذي يعاني و لا يمكننا ان نجهز على الانسان الذي يعاني مرضا مميتا او قل مثلا قد مات موتا سريريا. ان شخصيات الرواية تختلف وجهات نظرها في هذا الخصوص فمن المؤيد الى المعارض و لن يخفى على القارئ ان هذه النقطة ستقرر مصير بعض الشخصيات لاحقا في احداث الرواية . ان هذه المسألة متشعبة و لها تبعات كثيرة و يجب ان تدرس في الفلسفة الاخلاقية فهل يحق للدكتور ان يزهق حياة مريضه اذا طلب المريض منه ذلك ؟ و في حالة المرض هل القرار بيد المريض ام بيد غيره ؟ يذكر ان احد المرضى اصر على دكتوره في هذه المسألة و لكن الدكتور رفض الاستجابة له و لكنه قبل ان يغادر ترك عنده عددا من الاقراص الطبية و اخبر المريض ان العدد الفلاني سيكون ساماً بشكل يودي بحياته ثم خرج . المثير للاهتمام هنا ان المريض لم يقدم على ازهاق نفسه و هذا يترك فاصلة واضحة بين النظرية و التطبيق في هذا المجال . و من المواضيع المهمة التي تناولتها الكاتبة في الرواية الاخيرة مسألة الماضي و الحاضر حيث نرى مقارنات عديدة بين الماضي و الحاضر و هذا بطبيعة الحال نتيجة مباشرة لكون احداث الروايتين تقع في نفس المسرح فستايلز يعيد ذكريات قديمة و لكن الزمن اظهر قساوته على بوارو فأصبح معاقا و اظهر قساوته على هاستنجز نفسه فماتت زوجته و تفرق عياله و بقي مع ابنته جوديث التي لا تترك فرصة واحدة الا و اظهرت تمردها و عصيانها على ابيها بل على ما يمثله ابوها . على كل حال السؤال المهم هنا هل الماضي اكثر سعادة من الحاضر ؟ ام اننا نريد ان نتصور ان الماضي اكثر سعادة ؟ لفت انتباهي ان شخصيات الرواية تشير في اماكن مختلفة الى مسألة الانشطة الخارجية في الطبيعة الشيء الذي بدأ بالاختفاء مع الجيل الجديد الذي نزح عن الحياة القروية في الريف و بدأ يهوى الحياة المدنية المغلقة اكثر و قد وصفت كريستي الرجل الانجليزي السابق بعدة اوصاف منها انه رجل outdoors اي ان الرجل الانجليزي كان رجل الطبيعة رجل الاستمتاع بالاجواء الخارجية رجل المغامرات و الاستكشاف . و في مشهد من مشاهد الرواية اثناء خروج السيدة فرانكلين للاستمتاع بنزهة في يوم بديع تتحسر على زوجها الذي يفضل ان يقضي ايامه بين انابيب المختبر . اما ذروة الاختلاف في هذه النقطة فكان بين بوارو و صديقه هاستنجز فبوارو يعتقد ان الزمن الماضي لم يكن اكثر سعادة و انما يخيل الينا انه كان كذلك . شخصيا تفكرت في هذه المسألة كثيرا فلماذا عادة يرافق تذكر الماضي نوع من المشاعر الحزينة و الاسى و لماذا عادة ينتابنا حنين الى تلك الازمنة ؟ هل هي فعلا كانت اكثر سعادة ؟ لا يمكن الاجابة عن هذا السؤال بشكل مطلق فالاجابة تختلف بحسب طفولة و ماضي كل شخص و لكن يبدو لي ان فترة الطفولة و الشباب في كل زمان ستكون عادة اكثر سعادة من السنوات الاخيرة فالنصف الاول من العمر يمثل النشاط و الصحة و اللامبالاة و قلة المسؤوليات و الاستمتاع و التجارب الجديدة و اما النصف الثاني فيمثل الروتين و الملل و الامراض و المسؤوليات و المحسوبيات الاجتماعية و الحياة للغير ... الخ . هذا اضافة الى انني فعلا اعتقد ان الحياة مع كل جيل تزداد تعقيدا و تزداد المسؤوليات التي تبعد الانسان عن الاستمتاع بالحياة حقيقة . في الرواية هناك حنين الى زمن البساطة في الريف و مع كل جيل يبدو ان هناك شيئا تخسره البشرية تدريجيا خصوصا فيما يتعلق بعلاقة الانسان و الطبيعة ، الى ان وصلنا الى الجيل الجديد الذي لا يعرف الحياة بدون الانترنت و بدون الهواتف الذكية قد نختلف في الاقرار بمستوى تأثير هذه التقنيات و هل فوائدها اكثر من مضارها مثلا الا انه لا يمكننا الاختلاف في حقيقة واضحة جلية و هي ان هذه الحياة التي يقودها الاتصال المتواصل و الشاشات المتنقلة في كل مكان هي حياة أثيرية مشتتة بعيدة كل البعد عن الحياة الواقعية الحسية الحاضرة ، فلا غرو ان كان عند البعض حنين الى الزمن الماضي و لا اعتقد انهم يخالفون الواقع عندما يقولون ان الحياة كانت اكثر بساطة .
عودة الى الرواية اعتقد ان الكاتبة في الرواية الاخيرة حاولت جاهدة ان تصل الى الجريمة الكاملة و لكن ما هي الجريمة الكاملة ؟ فكلنا نعرف انه لا توجد جريمة كاملة ، لكن بلى توجد جريمة كاملة ألا و هي الجريمة التي لم تقع ! مجملا اعتقد ان الكاتبة بالغت في طلب هذه المسألة. ختاما احببت ان اعلق على ما يثار في بعض المقالات المتناثرة على الشبكة من ان الديم اجاثا كريستي كاتبة عنصرية و يستدلون على ذلك بنقاط كثيرة الا ان المسألة يبدو لي لا تخرج من قسمين :
الاول : انه من الوضوح بمكان ان مجرد الوصف الادبي لا يعني العنصرية فالاستشهاد بعبارات من مثل " العيون الآسيوية " او " الكف الفلانية " و ما الى ذلك انما يعكس محاولة الكاتب وصف ما يراه فليس هو من العنصرية اذ ان العنصرية تحتوي نوعا من العدوانية و النظر الدوني الى جنس معين و هذا لا يكون من مجرد الوصف الواقعي و إنما يحتاج الى قرائن و قيود اخرى . لكن يبدو ان الموضة هذه الأيام في تصنيف كل شيء بأنه عنصري فاذا قلت عن لون فلان انه اسود او قلت ان شعره مجعد او ان عيونه ضيقة او ان حاجباه متصلين اصبحت عنصريا بجدارة.
الثاني : كون شخصية من شخصيات الرواية عنصريا لا يعني ان الكاتب يتبنى وجهة نظره و اسلوبه و من الغريب ان نحتاج الى الاشارة الى مثل هذه الامور ففضلا عن الروايات و القصائد انا ككاتب مقالات لا اعتقد كل وجهة نظر استعرضها في مقالاتي فكيف يمكن ان نحمل الفنان كل عبارة تصدر من شخصياته الوهمية . لكن هذه الايام هناك فوبيا العنصرية و مطاردات شرسة من بعض الحركات و الجهات التي لا تتورع عن الصاق التهم ، وصلت الى حد ان يتهم احد اشهر المخرجين بالعنصرية لاستخدامه الفاظا عنصرية مع ان الفيلم يذم العنصرية و بطله شخص اسود ! هذا و لو سلمنا جدلا على ان الديم فعلا لديها معتقدات عنصرية فيجب ان نلاحظ السياق التاريخي فلا يصح ان نحاكم أعلام الماضي بمقاييس الوقت الحاضر ، و هذا الذي لا يستطيع البعض ان يفهمه و هو ما سبب المشاكل قبل فترة قصيرة في بعض الولايات الامريكية حينما دعت بعض المنظمات الى ازالة تمثال لقائد امريكي من ايام الحرب الاهلية بحجة انه كان عنصريا و لقد احسن من اجاب فليزيلوا بقية تماثيل رؤساء امريكا و مؤسسيها فالكل كان يتملك العبيد . و الا اذا تجاهلنا السياق التاريخي فالمسألة لن تقف عند العنصرية بل ستمتد الى الدين و حقوق المرأة و الاقليات ثم الشواذ و غير ذلك من المقاييس و المبادئ و الحقوق التي لم تتبلور عالميا الا في العقود الاخيرة ثم اصبحت مسلمات يحاكم عليها الانبياء و المصلحون و الاديان و غيرهم بشكل رجعي مع ان اول قاعدة يدرسونها اليوم في القانون ان القوانين الجديدة لا تنفذ بشكل رجعي.

دمتم في الرضا ،