:: كل المقالات ::

Tue, 13 Dec 2016

عن الجملة القصيرة و الجملة الطويلة

بسم الله الرحمن الرحيم
في المفهوم العام دائما الايجاز و القصر يعتبر من اسس البلاغة في الكلام . بمعنى كلما كانت الجملة اقصر فهي ابلغ من الناحية الادبية . القران الكريم اكبر مثال على هذا الاسلوب فأغلب الايات و الجمل تتكون من كلمات قليلة تؤدي معان عميقة و كثيرة .. مثلا :
و لكم في القصاص حياة
و لهن مثل الذي عليهن
فسلام لك من اصحاب اليمين
انا هديناه السبيل اما شاكرا و اما كفورا
و هديناه النجدين
فالملقيات ذكرا * عذرا او نذرا
الى اخره من الامثلة الكثيرة من يريد ان يطلع عليها و ما توجز من معان كثيرة في كلمات قليلة يجب عليه ان يرجع الى كتب اللغة .
مما يميز الجمل البليغة كونها تحمل عدة معان و يمكن اسقاطها على انواع مختلفة من الظروف مثلا : من طلب المعالي سهر الليالي ، هي صالحة للشاعر و الكاتب و العامل و الفنان و الطالب و الموسيقار حيث كل منهم يفهمها على طريقته فهي ابلغ و افضل من مثلا "الطالب المجد يسهر الليالي على دروسه" فهنا الجملة و ان كان يمكن ان يفهمها الانسان فيضع نفسه مكان الطالب و يستبدل الدرس بحرفته الا ان التجريد الموجود في الجملة الاولى يجعلها اكثر بلاغة و أصلح لان تكون بحق حكمة يتغنى بها اهل الطموح .
و من هذا المبدا استحدث في علوم الحاسب مفهوم تعددية الاشكال Polymorphism فالامر dispatch يفهمه كل كائن على طريقته و يتعامل معه باسلوبه ، كقول مدير العمل بعد انتهاء العمل “عودوا الى العمل" فالمحاسب يعود الى الكاشير و المهندس يعود الى مكان المشروع و الكاتب يعود الى مكتبه … هذا يجرنا للكلام عن السياق context و القرينة و دور الرمز في الجمل البليغة و لكن لنعد الى …
ما نغفل عنه عادة انه ليس شرطا كون الجملة بليغة ان تكون بالضرورة قصيرة او بمعنى ان يكون عدد الكلمات قليل، المسألة فقط ان تكون الجملة خالية من الحشو او الكلمات التي يمكن الاستغناء عنها . مرة اخرى هنا نجد امثلة كثيرة في القران الكريم لجمل طويلة ، و لكن هناك حاجة للاطناب .
هذه المسألة تتكرر كثيرا في الشعر ، هناك بحور طويلة و بحور قصيرة ، و لكن اغلب القصائد المميزة هي من البحور الطويلة ، فمن القصيرة مثلا :
أطاح الابن بالوالد – فيا للخلق الفاســـد
اما يكفيك يا هذا – و انت الوارث الواحد
او :
هنئت يابن المعالي قد حزت سبقا يسر
او :
نار بقلبي تشب و لا اراها ستخبو
او:
يا دين قلبك من بارق ينير و يخبو
و في الجهة المقابلة ابيات طويلة مثل :
يا ساهر الليل يرعى داجي الظلم ، معذب الروح من وجد و من سقم
الابيات القصيرة سريعة و تساعد على الايجاز و لكنها بدورها تصعب عملية انشاء الصور المركبة فالبيت الواحد من الصعوبة بمكان ان يحتوي على اكثر من صورة الا ان يساعده البيت التالي فالتالي ليكونوا لوحة متكاملة ..
هذا الامر يتكرر في الروايات ، الجملة الطويلة لديها قدرة على رسم الصور المركبة و اضفاء الحركة و التفاصيل الى الصورة بدلا من استخدام عدة جمل قصيرة.
ذهب جاسم الى البيت.
صعد السلالم الى الطابق الثاني.
كانت غرفته بانتظاره.
كانت مملوة بالكتب المبعثرة .
كان الهر الاسود يتوسطها .
او
ذهب جاسم الى البيت و صعد السلالم الى الطابق الثاني ، حيث كانت غرفته بانتظاره و هي مملؤة بالكتب المبعثرة التي توسطها الهر الاسود .
ايضا هنا يجب ان نشير الى مسألة التكرار و التي عادة تعتبر من نقائص البلاغة ، و لكن في احيان كثيرة و اذا استخدمت في مكانها المناسب تكون من كمال البلاغة و ابرز الامثلة هنا سورة الرحمن ..
لا اعرف ما هي اطول جملة في اللغة العربية و لكن في اللغة الانجليزية بناء على ويكيبيديا:
1- 469,375 كلمة في جملة من “The Blah Story”
2- 1,287 كلمة من رواية لفولكنر مسجلة كأطول جملة مطبوعة في موسوعة غينيس.
3- 12,931 كلمة في رواية لجيمس جويس .
لا ادري لماذا كل هذا الطول و يبدو انها فعلا مجرد حشو يمكن اختصاره و لكن على كل حال سأعطيكم مثالا على جملة طويلة و لكن في قمة البلاغة و الروعة الادبية الا و هي الجملة الافتتاحية في قصة مدينتين للكاتب الاروع تشارلز ديكنز :
It was the best of times, it was the worst of times, it was the age of wisdom, it was the age of foolishness, it was the epoch of belief, it was the epoch of incredulity, it was the season of Light, it was the season of Darkness, it was the spring of hope, it was the winter of despair, we had everything before us, we had nothing before us, we were all going direct to heaven, we were all going direct the other way – in short, the period was so far like the present period, that some of its noisiest authorities insisted on its being received, for good or for evil, in the superlative degree of comparison only.
هذه تمام الـ 120 كلمة مرصوفة في غاية الاتقان في غاية الابداع في سحر المقابلة في اوج الوصف الادبي الرائع ، بل لا اعتقد اني رايت اجمل منها في اللغة الانجليزية على الاطلاق.
و يستمر في الجملة اللاحقة على نفس المنوال في المقابلة ليخلص الى نتيجته في الجملة الثالثة:
There were a king with a large jaw and a queen with a plain face, on the throne of England; there were a king with a large jaw and a queen with a fair face, on the throne of France. In both countries it was clearer than crystal to the lords of the State preserves of loaves and fishes, that things in general were settled for ever.
نكتفي بهذا القدر و الحمد لله رب العالمين