:: كل المقالات ::

Tue, 17 Dec 2019

1300 صفحة من الخيال


بسم الله الرحمن الرحيم

يمكننا تقسيم القراء مجملا الى قسمين ، الاول هواة الخيال (fiction) و الاخر غير الخيال (non-fiction) . قبل شهر او اكثر قمت بقراءة رواية مكونة من اكثر من 1300 صفحة و هذه الرواية من الخيال المحض . هذه الرواية تفوق كلماتها الـ 240 الف كلمة و لكي نضع الاشياء في موازينها يكفيك ان تعرف ان الروايات عادة تكون بين 60 الى 80 الف كلمة. هناك دائما جدال بين هواة الخيال و اعدائه عن جدوى قراءة الاعمال الخيالية فالبعض يعتبرها مجرد مضيعة وقت كأي نوع من انواع التسلية الاخرى . و لربما تعرضنا لهذه النقطة بما فيه الكفاية في مقالتي الاخرى المعنونة بـ " لماذا لا أنصح بقراءة موراكامي". لكن هذه النقطة كانت من اسباب اختياري لهذا العمل بالتحديد فأنا لم اكن اريد فقط اختبار لياقتي في قراءة كتاب طويل بهذا الحجم فقط و انما اردت ان لا يكون هناك دافع تعليمي او ديني يبرر هذه المهمة.
اما المهمة فلم تكن صعبة جدا فهذا الكتاب خيال اولا و اخيرا و لا يحتاج الى اعمال جهد عقلي كبير و لكن هناك عوامل زادت من صعوبة المهمة . من تلك العوامل مسألة حجم الكتاب فكتاب بهذا الحجم يرهق اليدين بسرعة لثقل الكتاب ، هذا و اذا اضفنا استخدام الجوالات و الحواسيب هذه الايام فستعاني سريعا من تصلب في الاصابع و آلام في اليدين و المفصلين . الامر الاخر انني في منتصف الطريق انشغلت بأمر آخر أدى الى التوقف عن القراءة مدة عشرة ايام تقريبا فكانت العودة بعد الانقطاع متعبة و سرعان ما بدأت اعاني من الملل لان المدة اصبحت طويلة منذ بدأت الرواية . و قد كان الكاتب في الثلث الاخير يمدد القصة تمديدا و كأنه لا يوجد سبب للاستمرار الا عهد قطعه الكاتب على نفسه الّا يكف عن الكتابة إلا عندما يتعدى حاجز الـ 1300 صفحة. هذا بالطبع ضاعف الشعور بالملل و لكن تصبرت الى انهيت الرواية بعد شهر كامل تقريبا منذ اول يوم بدأت فيه القراءة. و لا انكر انني تساءلت كثيرا عن جدوى الاستمرار في قراءة هذه الرواية بل فكرت في تركها مرات عدة لاسباب متنوعة فالقسم الاخير -حوالي 400 صفحة- مجرد تطويل لا مبرر له و اما القسم الاول فكان كثيرا ما يدخل في مشاهد حميمية و لربما هذه محاولة لجذب القارئ و ترغيبه في الاستمرار. اما القسم الأوسط فهو جيد و سريع من ناحية الاحداث و لكن المشكلة انه وقع في الفترة التي انقطعت فيها عن القراءة بسبب بعض المشاغل.
لننتقل الان الى مسألة جدوى هذه القراءة و ماذا تعلمت من قراءة 1300 صفحة من الخيال ؟
اولا تعلمت الصبر ! نعم قراءة عمل بهذا الحجم يحتاج الى مجهود جسدي شديد على العينين و اليدين و المفاصل. و لكن بالنسبة لي كان الصبر على الاستمرار في القراءة اشد خاصة عندما كنت احتاج الى مبرر يوجه هذه الساعات التي اقضيها في قراءة خيال . و باعتقادي ان ملكة القراءة مثل العضلة تزداد قوتها و لياقتها بالممارسة و التمرين بغض النظر عن جودة المحتوى.
ثانيا من ناحية الصنعة الادبية تعلمت الكثير الكثير و بفضل هذه الرواية اعتقد انني في مرحلة تساعدني على كتابة رواية خيالية فالادوات و التقنيات التي يستخدمها الكاتب تظهر جلية في مثل هذه الاعمال التي تتيح له مساحة كبيرة لاستعراض و استخدام ادواته و تقنياته بأشكال مختلفة. كان بودي ان نستعرض بعض تلك التقنيات و ندرسها و لكن هذا الامر خارج سعة هذه المقالة المختصرة.

هل سأقرأ اعمالا خيالية ماراثونية اخرى ؟ أما من نوعية الخيال المحض من مثل اعمال "جورج ار ار مارتن" و "جي كي رولنج" و غيرهما فالأغلب لا ، و لكن ربما لا يزال المجال مفتوحا لقراءة بعض الاعمال الخيالية المطولة و لكن ذات المغزى و النظرة الفلسفية مثل "البحث عن الزمن المفقود" للكاتب الفرنسي براوست و لكن هذه المهمة تبدو صعبة جدا تجعل من المهمة السالفة نزهة في الحديقة ! فرواية البحث عن الزمن المفقود مكونة من حوالي 4215 صفحة تحتوي على 1267069 كلمة!
المؤكد ان لياقتي في قراءة الخيال تضاعفت بعد هذه المهمة فما ان وضعت هذه الرواية الا و اخذت رواية "قواعد العشق الاربعون" و قد كتبت عنها مفصلا في المقالة السابقة . ثم ذهبت الى المكتبة لأعيد الرواية المستعارة و قد عزمت على التوقف عن القراءة لفترة الا انني لم استطع مقاومة رواية "جرائم مونوجرام" للكاتبة "صوفي هانه". و شرعت في قراءة هذه الرواية التي لن أخصها بمقالة مفصلة و سأكتفي ببعض الملاحظات السريعة هنا . نعم ، فرواية "جرائم مونوجرام" تعتبر اول عمل روائي يعيد المحقق الشهير بوارو الى قيد الحياة ! و لكن السؤال كيف أعادت احياء هذه الشخصية و حقوقها محفوظة للكاتبة العريقة اجاثا كريستي ؟ يبدو ان هذه الكاتبة مبدعة لدرجة انها استطاعت ان تقنع حفيد اجاثا كريستي بقدرتها على كتابة رواية تحاكي فيها اسلوب جدته ! فنرى ان حفيد كريستي اعطاها حقوق استخدام هذه الشخصية و قد بدأت فعلا سلسلة روايات تعتمد شخصية بوارو كبطل لقصصها . حقيقة لم اكن اتوقع ان الرواية ستكون جذابة و ممتعة بعد قراءة المراجعات السلبية عنها و لكن انصافا ارى ان الكاتبة استطاعت الى حد كبير ان تحاكي اسلوب اجاثا كريستي . فالعناصر الاساسية التي تميز اعمال اجاثا كريستي موجودة في هذه الرواية خاصة من ناحية الحبكة و مسرح الاحداث. طبعا الرواية لا تخلو من ملاحظات منها :
اولا : الكاتبة اغرقت في استخدام المصطلحات الفرنسية بخلاف اجاثا فقد ترمي اجاثا بعض الكلمات الفرنسية القليلة في ثنايا القصة و لكن الكاتبة في هذه الرواية بالغت جدا في ادراج الكلمات الفرنسية لدرجة انك تحتاج الى قاموس فرنسي لفك طلاسم بعض العبارات.
ثانيا: من يقرأ لاجاثا كريستي يعرف انها تتلاعب بالقارئ في مسير الاحداث فهي توجهك الى اتجاه معين ثم تصدمك لتغير اتجاهك ثم تعود لتصدمك مرة اخرى ! لكن صوفي هنا ايضا بالغت في تغيير الاتجاهات لدرجة انك في النهاية تصل الى مرحلة لا تعود تكترث فيها .
ثالثا: من تواقيع اجاثا كريستي في روايات بوارو مشهد النهاية حيث يجمع بوارو ابطال القصة ليكشف لهم اسرار الجريمة و لكن هنا ايضا صوفي بالغت في الاطالة ! فليس من المعقول ان يمتد مشهد النهاية الى عشرات الصفحات . اعتقد انها كانت تريد ان تظهر مدى تعقيد الجريمة و لكن هنا ايضا خانها الاختيار! فلننتقل الى النقطة التالية للتوضيح.
رابعا: ذكرت ان الكاتبة بالغت في تغيير اتجاهات الرواية في محاولة لتعقيد الجريمة و هذا طبعا يظهر براعة الكاتب في تعقيد طبقات الحبكة . المشكلة ان هذا التعقيد انفصل عن الواقعية في النهاية ، بمعنى ان الاحداث اصبحت غير محتملة الحدوث في الواقع و هذه النقطة الحيوية التي تظهر الفرق بين صوفي و بين الديم اجاثا كريستي. فالمبدع هو من يجيد الانطلاق و لكن الاستاذ فقط هو من يعرف متى يجب الوقوف.

على كل حال انا اخالف القراء الذين انتقدوا هذه الكاتبة و اعتبروا محاولتها فاشلة فعلى الاقل هذه المحاولة الاولى جدا مقبولة بالنسبة لي و لا اعلم عن بقية رواياتها الثلاث الاخرى التي كتبتها في هذه السلسلة .
نعم يبدو انني تجاوزت حاجز الـ 2000 صفحة من الخيال في الشهر الماضي و آن الاوان للرجوع الى الواقع …


دمتم في الرضا ،