:: كل المقالات ::

Tue, 13 Dec 2016

بين الصنعة الادبية و المباشرة

بسم الله الرحمن الرحيم
اولا لنقل انني لست من انصار نظرية الادب للادب ، و لا اي شي لأي شي في حقيقة الامر !. الشيء بالنسبة لي يجب ان تكون له غاية و هذه الغاية يجب ان تكون خارجة عن الشيء و ليست الشيء نفسه. اذا بالنسبة لي يوجد افكار اريد ان اشاركها مع غيري و لدي مجموعة من القوالب التي يمكن ان اصب فيها افكاري مثل الشعر العمودي ، الشعر الحر، النثر و بشكل اخص المقالة .
في بداية الامر كان الشعر العمودي خياري المفضل ، من منا يقرا شعر امثال الشريف الرضي ، البحتري و غيرهما و لا يحب ان يتشبه بهم ! بعد سنوات وجدتني ابتعد شيئا فشيئا عن الشعر العمودي بل مجمل الكتابة الشعرية و انتقل الى الكتابة النثرية و بشكل اخص المقالة الدارجة. لماذا ؟ هناك عدة اسباب لا اعتقد ان انغماسي في المقالات و الكتب العلمية له ذاك التأثير لاني لازلت اقرا الكتب الادبية بنفس المقدار. المشكلة الرئيسية التي واجهتها مع الشعر هي قوله تعالى "و انهم يقولون ما لا يفعلون" ثم قوله تعالى في سورة الصف "يا ايها الذين امنوا لم تقولون ما لا تفعلون كبر مقتا عند الله ان تقولوا ما لا تفعلون" ، لا يخفى ان من متطلبات الصنعة الادبية الناجحة ان نقول اشياء لا نفعلها و ان نقول اشياء لا تعكس حقيقة الموقف، اليس اعذب الشعر اكذبه ؟ اسلوب التهويل و التكبير شيء مطلوب في الشعر بل كيف تصنع مقطوعة ادبية اذا لم تحور الواقع؟ هنا مشكلة فحين تريد ان تطرح رؤيتك في قالب شعري يجب ان تراعي الصنعة و تتابع الشعراء و تحور الحقيقة كي ينظر الى ادبك ، اما مجرد وصف الموقف او عرض الفكرة بشكلها الحقيقي البسيط فسيتركك متاحا لالسنة النقاد ففي احسن الاحوال ستخرج بـ "جيدة و لكنها مباشرة جدا" . طبعا اعلى مرتبة في التصنع و التكلف هو من يبكي على اطلال وهمية و يخترع معارك يتعنتر فيها الى اخره جريا على عادة الشعراء القدماء و لا يعني نفسه ان يعدل اسلوبه الشعري الى اسلوب حديث يحكي واقعه و بيئته . ثم صاحب المبالغات الرومانسية الذي تبكيه كل الموجودات و تأن بأنينه لان حبيبته تأخرت على الموعد و اخيرا اصحاب العرفانيات و المغامرات الروحية العجيبة من عروج الى سماوات سبع و دردشة مع بعض ملائكتها، مرورا باصحاب الرمزيات الثقيلة التي تجعلك لا تعرف عن ماذا يتكلم و لكن من باب المجاراة يجب ان تقول جميل ، جميل جدا ، و الا ظهرت بمظهر الغشيم!
انا لست ضد الشعر و لكن ضد كل هذه الطقوس و العادات و الضرورات التي تؤثر على نصي الشعري، و الاهتمام بما تفرضه علي ملامح المدارس السائدة ، لناخذ مثالا بسيطا : في الشعر لا يمكن ان تقول لمحبوبتك احبك هكذا ببساطة و لكن يجب ان ترسم صورة فنية تشاركك فيها النجوم بالرقص و القمر بالعزف و الشمس بالدف و انت تغني باسمها .
شخصيا لا شأن لي و الناقة و الوقوف على الاطلال ، و السكر بالمدام، و الخروج من رحم الوجود بعد طلق سبعة شهور ! القالب الذي اتخذه لصب افكاري يجب ان يساعدني لا ان يقف في وجهي برسوم و ضرورات. المشكلة تكمن في ان الكلام هنا قد يصبح مجرد كلام ، الشاعر لا يعني ما يقوله انما يقوله هكذا جريا على العادة . لا احب ان اقرا لشاعر يقول الشعر فقط ليقول شعرا و لا احب الشعر عندما لا يعكس تجربة حقيقية ، كيف يمكنني ان استمتع برحلة عرفانية مع معرفتي بأنها مجرد خيالات وهمية في ذهن الشاعر، كيف اتعاطف مع شعر قاله شاعر في مصاب شخص لا يعرفه و اسبغ عليه اوصاف الكمال هكذا؟
احيانا اشعر بالاسى عندما ارى قصيدة في مدح او رثاء شخص تفوق ادبا و بلاغة قصيدة كتبت في مدح او رثاء امام من الائمة، هل كان هذا الشخص مستحقا ؟ لا و انما غرور الشاعر و حاجته لاثبات قدرته جعلته يرفع من شأنه كثيرا و الحقيقة خلاف الواقع . كل هذا يجعل بين القارئ و النص فجوة فلا يمكن ان تأخذ الامور بحرفية و لا جدية و انما تقرا النص لاجل النص فقط فأصبحنا بحاجة لان نقرا النصوص في كون خاص بها، كما نشاهد الافلام فهي في عالم خاص بها .
ثم نأتي للصنعة الادبية النثرية التي تعاني من نفس المشكلة و ترضخ تحت اغلال الضرورات و العادات و التكلفات التي لا اهتم لها ايضا لانها لا تضفي للمعنى معنى حقيقيا. الكتابة الادبية لا تتمتع بالموسيقى الشعرية ، ما يجعل البعض يغرق في الصنعة من جناس و سجع و مقابلة ليضفي نوعا من الاثارة و المتعة على نصه.. مرة اخرى هذا لا يخدمني شخصيا فأنا كما اسلفت اريد نقل التجربة و الفكرة باسلوب مباشر و قصير. من يقرا المقالات الادبية في المجلات يعرف هذا الشيء فالاسلوب اسلوب انشائي طويل لا اعرف هل سببه ان الكاتب لديه فكرة واحدة فقط و يريد ان يجعل منها مقالة او دراسة ؟ فقد تقرا مثلا مقالة عن شيء معين كلها جمل انشائية يمكن ان تلخص في ثلاث او اربع جمل و الباقي مجرد حشو و تطويل كي تصبح الفكرة مقالة. فبدلا من ان تكون الافكار كثيرة في النص و الجمل يستفاد منها عدة معان كما في النصوص البليغة العالية تجد ان الجمل و الكلمات كثيرة و لكن المعاني و الافكار قليلة جدا. مشكلة الاسلوب الانشائي في الوصف انه لا يعني كثيرا فلو مثلا كتبت فقرة بهذا الشكل على فرض انها مقالة عن بلد معين :
يوم كما كل يوم، الجو يجعلك ترقص على انغام البرد. كانت السماء ماطرة ، و الغيوم الكئيبة خبأت ابتسامة الشمس، و بين الفينة و الاخرى تسمع قهقهة الرعد ….الخ . نلاحظ اولا ان المعنى المستفاد حقيقة هو فقط ان هذه البلدة اغلب ايامها ذات جو شتوي ! ايضا الفقرة مجرد كلام انشائي يصلح ان يكون وصفا لعدة بلدان اخرى .
المباشرة في الطرح ملاحظ عند كتاب الغرب فهم يخلصون الى المطلوب بسرعة و بدون اهتمام مبالغ بالاسلوب و الصنعة ، و في زمن انفجار المعلومات كما يقولون ارى حاجة و فائدة لهكذا نوع من الكتابة. في النهاية الصنعة الادبية لها مكانها و كل فن له مكانه ما احاول قوله ان اللغة اساسا و الفنون الادبية تباعا انما هي ادوات لعرض الافكار و التجربة يجب ان تسهل عملية التواصل بين الكاتب و القارئ لا ان تكون حاجزا و عائقا ، المهم هو المضمون و القالب شيء عرضي ، و هذا حال النصوص الادبية العظيمة فالمضمون عال و البلاغة تزيد من جماله. و لاني اولي اهمية للمضمون فلا يهمني الشكل كثيرا لهذا ابتعدت عن الشعر و النصوص الادبية الى المقالة الدارجة لا لشيء الا لانني اريد ان اوصل فكرتي باسلوب مباشر و سريع و لا اريد ان استغرق في ترتيب المفردات لاخرج بصور وهمية مخالفة لتجربتي و فكرتي و ان كانت الصنعة ادعى لاستقطاب المزيد من الجمهور و اثارة اعجابهم ، لكني افضل ان يعجب جمهوري بفكري بدلا من قدرتي على ترتيب و تركيب الالفاظ..
دمتم في الرضا ،،