:: كل المقالات ::

Tue, 13 Dec 2016

أنا بين الشعر العربي و الفارسي

بسم الله الرحمن الرحيم

أمّا ان يكون مطلع العنوان كلمة " أنا " فهذا قد يكون اشعارا بتضخم الانا عند الكاتب و لكن في الحقيقة العنوان على شكل " بين الشعر العربي و الفارسي " يوحي بدراسة ادبية معمقة و الحال اني لا أملك المؤهلات المناسبة لذلك و لا اريد الا طرح مختصر تجربتي " الشخصية " بين الشعرين فمن هنا جاءت الـ أنا.
بدايتي كانت مع الشعر العربي و من اقدم القصائد التي اذكر سماعها في فترة مبكرة من عمري ، قصيدة ابن سينا في الروح :
هبطت اليك من المحل الارفع ... ورقاء ذات تعزز و تمنع
وصلت على كره اليك و ربما … كرهت فراقك و هي ذات تفجع
كان يقرأها جدي رحمه الله مرارا فبقيت في الذاكرة الى الان. و من قصائد تلك الفترة في مدح فخر المخدرات عليها السلام:
يا دوحة بسقت في المنبت الزاكي ... حيا الحيا ربعك السامي و حياك
حاكيت شمس الضحى والبدر مكتملا ... أبـاً وأمـاً وكـان الفضل للحاكي
و ميمية الفرزدق :
يا سائلي اين حل الجود و الكرم … عندي بيان اذا طلابه قدموا
هذا الذي تعرف البطحاء وطأته ... و البيت يعرفه و الحل و الحرم
و المبكية :
أبتاه ماذا قد يخط بناني ... و الحبل و الجلاد ينتظراني
و الخزاعية :
مدارس آيات خلت من تلاوة … و منزل وحي مقفر العرصات
الى غيرها من القصائد التي حفظناها خوفا من عقاب الاستاذ و لكن في بداية سنوات المراهقة المبكرة بدأت محاولة كتابة الشعر فكان لابد من تكثيف القراءة و قد استعنت بالوالد حفظه الله في اختيار بعض الدواوين فكان هناك الشريف الرضي و ايليا ابو ماضي و البحتري و قد كان يقول من يقرا البحتري كاملا سيصبح بالتاكيد شاعرا. و قد فهمت لاحقا اختياره للبحتري بالذات فشعر البحتري موسيقي بخلاف شعر المتنبي و ابي تمام حيث التركيز على المعاني و لهذا قال المعري " ابو تمام و المتنبي حكيمان و الشاعر البحتري " و كما قيل عنه ايضا " اراد ان يشعر فغنى "، و من عيون الشعر قصيدته الاستثنائية في وصف ايوان كسرى:
صنت نفسي عما يدنس نفسي … و ترفعت عن جدا كل جبس
و تماسكت حين زعزعني الدهــ … ــر التماسا منه لتعسي و نكسي
و بعيد ما بين وارد رفه … علل شربه و وارد خمس
استمرت هذه الفترة الى نهاية دراستي في المرحلة الثانوية و قد اعجبت لاحقا بجرير و ابي نواس و ابن الفارض و غيرهم . في هذه الفترة ايضا اغلب ما كتبته شعرا و ان كنت لم احسب نفسي في زمن من الازمان الا دخيلا على هذه الصنعة ، و لكن حسبي اني قلت بعض الابيات في أهل بيت النبوة عليهم السلام.
على مدى هذه السنوات و الى فترة قريبة كنت اتحاشى الادب الفارسي و خصوصا الشعر فقد كنت من ناحية استصعبه فلغتي الفارسية عامية و ليست اكاديمية او ادبية . هذا من ناحية و من ناحية اخرى كنت اجد في الشعر العربي كفاية فالشعر ديوان العرب و اختصاصهم . و قد ثبت عندي هذا الاعتقاد اطلاعي على بعض الشعر الغربي فلم اجد فيه ما يقارب الشعر العربي خصوصا في طريقة السبك و الفصاحة . هذا لا يعني انني لم اكن مطلعا على الادب الفارسي البتة بل اطلعت على ملحمة الفردوسي و لكن بشكل نثري لصعوبة الكلمات الشعرية القديمة في شعره و قرأت البستان و الكلستان للسعدي و لم اعجب بأعماله كثيرا لان الاعمال الحكمية لا تستهويني . اما الخيام فقرأت رباعياته بالعربية و لم اجد الكثير من الالهام لكن عندما وصلت الى حافظ تغيرت المعادلة و سيأتي الكلام عنه . قرأت ايضا من المتأخرين شهريار و ملك الشعراء بهار و اعتصامي . على كل حال لم اجد ما يلفت النظر الا عندما سمعت قول حافظ :
در ازل پرتو حسنت ز تجلي دم زد
عشق پيدا شد و آتش به همه عالم زد
بالعربي :
عندما تجلى حسنك في الازل ... ظهر منه العشق و اضرم النار في العالم
الى اخر الابيات التي كانت بمثابة بوابة لدخولي الى عالم الشعر العرفاني و هو الشيء الذي يتميز به شعراء الفرس حقا . طبعا انا لست بغريب عن الشعر الصوفي في ادبنا فقد امضيت زمنا مع ابن الفارض سلطان العاشقين و تغنيت بقصيدته :
شربنا على ذكر الحبيب مدامة … سكرنا بها من قبل ان يخلق الكرم
و لكن كانت علاقتي مع تلك الاشعار علاقة اعجاب بالمعاني و استحسان لغوي صرف و لكن مع الشعر الفارسي بدأت اصل الى النشوة العقلية بسرعة كبيرة الشيء الذي لم يحدث مع الاشعار العربية الا نادرا ، من تلك الاشعار قصيدة ابي العتاهية :
لهفي على الزمن القصير ... بين الخورنق و السدير
اذ نحن في غرف الجنا ...ن نعوم في بحر السرور
في فتية ملكوا عنا ...ن الدهر امثال الصقور
ما منهم الا الجسو ... ر على الهوى غير الحصور
... القصيدة.
و الاندلسية التي تغنيت بها و تسليت ايام عَزّ التصبر:
جادك الغيث اذا الغيث همى ... يا زمان الوصل بالاندلس
لم يكن وصلك الا حلما .. في الكرى او خلسة المختلس
في ليال كتمت سر الهوى
بالدجى لولا شموس الغرر
مال نجم الكأس فيها و هوى
مستقيم السير سعد الاثر
وطر ما فيه من عيب سوى
انه مر كلمح البصر
حين لذ الانس شيئا او كما ... هجم الصبح هجوم الحرس
غارت الشهب بنا او ربما ... اثرت فينا عيون النرجس
او قول السيد رحمه الله :
امدح ابا عبدالله … فتى البرية في احتماله
تغشى العيون الناظرات … اذا سمون الى جلاله
عذب المـــوارد بحــــــره ... يروي الخلائق من سجالـه
بحر اطل على البحــــور ... يمدهـــن نـــــدى بلالــه
سقت العبــاد يمينــــــه ... وسقى البلاد ندى شماله
يحكي السحاب يمينــه ... والودق يخرج من خلالــه
الأرض مـيــراث لـه ... والناس طراً فـي عيالـــه
يا حجّــة الله الجليــــــل ... وعينه وزعيــــــــم آلـــــه
وابن الوصي المصطفى … وشبيه أحمد في كمـــاله
أنت ابن بنت محمّــــــد ... حذوا خلقت على مثالـــه
فضيــا نـــورك نــــوره ... وظلال روحك من ظلالـه

هناك شاعر فارسي اقل شهرة يدعى فروغي ، هذا الشاعر هو الذي فعلا صدمني و أدهشني بروعة ابياته فقد كنت اقول سابقا ان حافظ و الذي يلقبونه بلسان الغيب من شدة سحر اشعاره حجة كافية لمن يريد تعلم الفارسية و لكن الان ادعي ان فروغي حجة كافية لتعلم الفارسية فأشعاره تلامس شغاف القلب و غزيرة جدا في المعاني العرفانية . انظر مثلا هذه الابيات و ان كانت فقدت رونقها عندما نقلتها الى العربية و لكن لا تزال تتمتع بالمعاني الغزيرة التي يدركها اقل من لديه نفس من العرفان او العشق .
کنون که صاحب مژگان شوخ و چشم سیاهی
نگاه دار دلی را که برده‌ای به نگاهی
مقیم کوی تو تشویش صبح و شام ندارد
که در بهشت نه سالی معین است و نه ماهی
چو در حضور تو ایمان و کفر راه ندارد
چه دوزخى چه بهشتى، چه طاعتی چه گناهی
مده به دست سپاه فراق ملک دلم را
به شکر آن که در اقلیم حسن بر همه شاهی

يا صاحب الرموش الرائعة و العيون السود
انظر الى القلب الذي اخذته بنظرة
فالمقيم في جوارك لا يشوشه الصبح و الليل
لان في الجنة لا سنة معينة و لا شهر
لان في حضورك لا ايمان و لا كفر
اي جحيم ؟ اي جنة ؟ اي طاعة و اي معصية ؟
لا تسلم ملك قلبي الى جيش الفراق
لشكر من جعلك في اقليم الحسن ملكا

نلاحظ في هذه الابيات المختارة كيف اختزل عدة مباحث عرفانية يمكن شرحها في اوراق كثيرة . بل يذهب شاعرنا الى ان الحياة بدون العشق هي البطالة :

عمری که صرف عشق نگردد بطالت است
راهی که رو به دوست ندارد ضلالت است

العمر الذي لا يصرف في العشق بطالة
الطريق الذي ليس وجهته وجه الحبيب ضلالة

اما عرفي الشيرازي فقد صدمتني ابياته التي يشخص فيها مشكلة الناس في العبادة فبعد ان تقرا ابياته التي سأذكر بعضها تتساءل مع نفسك ماذا أعبد انا في حقيقة الامر ؟ يقول :
حرم جویان دری را می پرستند
فقیهان دفتری را می پرستند
گروهی زشت خویند اهل دنیا
که زیب و زیوری را می پرستند
برافکن پرده تا معلوم گردد
که یاران دیگری را می پرستند

طلاب الحرم يعبدون باباً
الفقهاء يعبدون كتاباً
بعضهم اهل دنيا يطلبون القبيح
فيعبدون الحلي و الجماليات
ارفع الستار لتعلم
ان الاصحاب يعبدون (رباً) آخراً

البيت الاخير يذكرني بقول حافظ المشهور :
میان عاشق و معشوق هیچ حائل نیست
تو خود حجاب خودى حافظ از ميان برخيز

لا يوجد حائل بين العاشق و المعشوق
انت حجاب نفسك ، قم يا "حافظ" من البين

و لا يتم الحديث عن هذه النوعية من الاشعار بدون ذكر مولانا جلال الدين الذي تتميز اشعاره بالسلاسة في التركيب و كأنه يتكلم نثرا !

در هوایت بی‌قرارم روز و شب
سر ز پایت برندارم روز و شب
جان و دل از عاشقان می‌خواستند
جان و دل را می‌سپارم روز و شب
تا بنگشایی به قندت روزه‌ام
تا قیامت روزه دارم روز و شب

في هواك لا قرار لي ليلا و نهارا
لا ارفع رأسي من عند اقدامك ليلا و نهارا
يطلبون الروح و القلب من العشاق ؟
افديك الروح و القلب ليلا و نهارا
اذا لم تكسر صومي بسكّرة منك
سأبقى صائما للقيامة ليلا و نهارا

لطالما كان اهتمامي منصبا على شعر الطف و تراثنا العربي زاخر جدا في هذا الباب بقصائد تفوق الحصر و لكن من الاقرب لقلبي قصيدة الشريف :
كربلا لا زلت كربلا و بلا … ما لقي عندك آل المصطفى
و اللامية :
راحل انت و الليالي نزول … و مضر بك البقاء الطويل
و قصيدة ابن العرندس :
طوايا نظامي في الزمان لها نشر ... يعطرها من طيب ذكراكم نشر
قصائد ما خابت لهن مقاصد ... بواطنها حمد ظواهرها شكر
الى غير ذلك من الشعر الفصيح و الشعبي و لقد وجدت في الشعر الفارسي ساحة جديدة في استشكاف خبايا واقعة الطف من خلال الشعر المنظوم . يمكنني الاشارة الى اشهر من كتب في هذا الباب من امثال محتشم كاشاني الذي تجد اشعاره مكتوبة على الاقمشة التي تحيط بالاضرحة في ايران. و يوجد من تناول الموضوع من زاوية عرفانية كعمان الساماني و محمد امين الصادقي . و لانني ان شاء الله سأكتب مقالة بهذا الخصوص فسأعرض عن التفصيل في هذه المقالة و سأكتفي ببيتين من قصيدة لفؤاد الكرماني رحمه الله :
بينش اهل حقيقت چو حقيقت بين است
در تو بينند حقيقت، که حقيقت اين است‏
من اگر جاهل گمراهم، اگر شيخ طريق
قبله ‏ام روي حسين است و همينم دين است‏

نظر أهل الحقيقة لانه يرى الحقائق
يرى الحقيقة فيك لان هذه هي الحقيقة
انا لو كنت جاهلا بدون شيخ الطريق
قبلتي وجه الحسين (عليه السلام) و هذا ديني

في النهاية لا يفهم من كلامي تفضيلي للشعر الفارسي و لكن ما اقوله ان في السنوات الاخيرة مزاجي متلائم مع الاشعار الفارسية اكثر و ذلك شيء طبيعي ان يتغير المزاج مع مرور السنوات فهو يعتمد كثيرا على المرحلة العمرية و الفكرية ففي البدايات كان الانبهار بالفصاحة و الجزالة فمن الطبيعي ان يكون الاعجاب بالشعر الجاهلي و خصوصا المعلقات و مع سن المراهقة يبدأ الانسان بالتمرد فيحب تمرد المولدين فيعترض على الموروث فيقول ما لي و للوقوف على الاطلال و بكاء لبنى و سعدى :
قل لمن يبكي على رسم درس ... واقفا ما ضر لو كان جلس
اترك الربع ، و سلمى جانبا ... و اصطبح كرخية مثل القبس
ثم يشتد الحب و العناء فيرمي بنفسه في احضان المدرسة الرومانسية :
اجرح القلب و اسق شعرك منه … فدم القلب خمرة الاقلام
رب جرح قد صار ينبوع شعر … تلتقي عنده النفوس الظوامي
و زفير امسى اذا قدسته الروح ضـــربا من اقدس الانغــــام

و ينظر الى الغزل الصوفي من جهة اخرى :
و حياة اشواقي اليك … و تربة الصبر الجميل
ما استحسنت عيني سواك … و لا صبوت الى خليل

اهوى قمرا له المعاني رق … من صبح جبينه اضاء الشرق
تدري بالله ما يقول البرق … ما بين ثناياه و بيني فرق

كلفت فؤادي فيه ما لم يسع … حتى يئست رأفته من جزعي
ما زلت اقيم في هواه عذري ...حتى رجع العاذل يهواه معي

ثم يكبر و تشتد الرغبة في تكوين فلسفة خاصة به في الحياة فيعود الى الشعر الفلسفي عند المعري و اضرابه . و اخيرا يمل من العقليات و يدرك جفافها فيعود ليرتمي في احضان الحب و لكن هذه المرة حب من نوع اخر.

خبرت هست كه بى روى تو ارامم نيست
طاقت بار فراق اين همه ايامم نيست

هل لديك خبر بأنه بدون محياك لا قرار لي؟
لا طاقة لي بفراقك كل هذه الايام

اما الاخر فيخاطب الريح لعجزه :
من اي صبا ره رفتن به كوى دوست ندانم
تو مى روى به سلامت ، سلام ما برسانى

يا ريح الصبا لا علم لي بالطريق الى المحبوب
انت تذهبين بالسلامة ! اوصلي سلامي

أما الاخر فيلطم رأسه من حسرة الفراق :
دست من كير كه اين دست همان است كه من سالها از غم هجران تو بر سر زدم
خذ بيدي فهذه اليد هي اليد التي لطمت بها سنوات على رأسي من غم هجرانك

ختاما يقول حافظ :
بشوی اوراق اگر همدرس مایی
که علم عشق در دفتر نباشد

اغسل الكتب ان كنت تريد ما ندرس
فعلم العشق لا يوجد في الكتب


دمتم في الرضا ،