:: كل المقالات ::

Wed, 05 Sep 2018

لماذا لا انصح بقراءة موراكامي

بسم الله الرحمن الرحيم

*** تنبيه : هذه المقالة مختلفة عن بقية كتاباتي و تحتوي على كلام حول الجنس فمن لا يستسيغ هذا الامر يمكنه الاكتفاء بمعرفة ان سبب عدم نصحي بموراكامي هو اكثاره من القصص الجنسية ***

سمعت محاضرة لشيخ من اساتذة الاخلاق كان يحكي عن فترة من فترات عمره حيث كان يسكن مع احد الطلاب فيقول انني كنت اراه دائما منهمكا في القراءة فكلما دخلت و كلما خرجت اجده يقرا في كتاب ما . يقول الشيخ و كنت اتعجب من عدم تعب هذا الرجل من القراءة فقد كان يكفينا ما ندرسه و المشاغل الدنيوية الاخرى. و في يوم من الايام طغى الفضول عند الشيخ فقام و نظر الى هذا الكتاب فوجده الرواية العالمية المشهورة " كونت دي مونت كريستو " يقول و عند معرفة السبب بطل العجب . طبعا هذا الشيخ بحكم انه شيخ اخلاق فإنه يرى ان مثل هذه الروايات مجرد مضيعة للوقت بل انه يجهر بالنهي عن قراءتها فيقول اقرؤوا في كل العلوم و لكن لا تقرؤوا الروايات و اعتقد انه لم يكن يقصد الروايات تحديدا و انما يريد مجمل الاعمال الخيالية ما يعرف بالـ Fiction. اذا ابتعدنا عن المنظار الاخلاقي قليلا و نظرنا الى هذه الاعمال من منظار اكثر حيادا قد نقول ان هذه الاعمال مجملا لا تخلو من فوائد نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر :

1- ان هذه الاعمال عادة طويلة و تحتاج الى نفس لا بأس به لاتمامها و هذا شيء نفتقده في زمن السرعة فقد امسى واضحا ان الكل يعاني من مشكلة في قصر مدة الانتباه و التركيز و هذا الامر يعود الى عوامل كثيرة اهمها نمط الحياة الجديد الذي تأزم كثيرا مع ظهور الهواتف الذكية و ليس المكان هنا مكان التفصيل و لكن قد نتفق على ان هذه الروايات طريقة لا بأس بها للعودة الى القراءة المطولة و بناء عادة القراءة الجادة من جديد بخطوات ثابتة و ميسرة .

2- ان مجرد الانغماس في قراءة هذه الاعمال لساعات متواصلة من شأنه ان يكون فترة استرخاء جيدة للجسم و العقل فنحن مرة اخرى في هذا الزمان نادرا ما نجد الوقت الكافي للانغماس في بعض الانشطة التأملية الهادئة من مثل القراءة على كنبة باسترخاء ، الجلوس في صمت ، لعب الاوراق ، تركيب المجسمات ، النظر الى الغروب ... الى غير ذلك .

3- لا يمكن انكار ان هذه الاعمال تحتوي على عوالم و شخصيات خيالية مبهرة و معقدة تساعد على تنمية الخيال عند القارئ هذا فضلا عن ان اغلب الكتاب انما يمرر اعتقاداته و فلسفته من خلال الحوارات و الحوادث التي تجري في الرواية الخيالية فبالنتيجة يكون الطريق خياليا و لكن الرسالة واقعية .
4- التعرف على عادات و تقاليد و ثقافات البلاد المختلفة بشكل اكثر عمقا من الذي قد نتحصل عليه من مشاهدة الافلام و الاعلام المصور .
لهذا شخصيا ارى انه من الصعب الحكم مطلقا على سلبية هذه القراءة خاصة في زماننا الذي قد نريد من الشباب ان يقرؤوا و لو اي كتاب ورقي كان . طبعا السلبيات هي الاخرى كثيرة في المقام اذكر منها كأمثلة سريعة :

1- ان الهوس بقراءة هذه الاعمال و الساعات المطولة التي نقضيها في هذا الامر قد يتحول الى طريقة اخرى من طرق تضييع الوقت كما لو انني اشاهد افلاما و مسلسلات متتابعة.

2- ان هذه الاعمال عادة لا تظهر منها فائدة الا بعد قراءة ما بين السطور و معرفة ما يحاول الكاتب ايصاله و قد نحتاج الى معرفة الكثير من اسس النقد و التحليل لكي نخرج بنتيجة جيدة . هذا الامر عادة غير متحصل لعامة القراء فالاغلب يعتبرها نوعا من انواع تمضية الوقت و يكتفي بالظاهر من القصة و الاحداث .

3- ان الساعات الطويلة التي تقضى في قراءة هذه الاعمال كان من الافضل ان تقضى في قراءة الكتب العلمية و الادبية المفيدة و اعتقد ان هذا السبب هو السبب الرئيسي الذي كان ينظر اليه الشيخ. لكن مرة اخرى هذا على فرض ان القارئ كان فعلا سيستفيد من الوقت في قراءة اشياء اخرى و الحال ان الاغلب اذا لم يقرأ هذه فسينتقل الى نوع اخر من انواع تمضية الوقت قد يكون اقل فائدة فتكون النتيجة عكسية .

بعد هذه المقدمة اعود لموضوع موراكامي فقبل فترة اشتريت بعض اعمال هذا الكاتب الياباني المشهور و عزمت على قراءتها جميعا و لكن بعد قراءة بعض تلك الاعمال اجدني لا ارغب بمواصلة القراءة لهذا الكاتب . اولا يجب ان اعترف ان الخطأ في المرتبة الاولى كان من جهتي فأنا شخص لا اقرا او اشاهد شيئا الا بعد القراءة المطولة عنه لكي اتعرف على قيمة العمل لكن هذه المرة غرتني الشهرة فتركت التطقس المكثف و اكتفيت بقراءة سريعة في الويكيبيديا . المشكلة الاساسية في الاعمال الادبية انها لا تصنف كما الافلام على ما تحتويه من لغة و مشاهد جنسية و ما الى ذلك الامر الذي اوقعني في ورطة يصعب تلافيها و قد اعتب قليلا على اخينا ابي شهد الذي لم يذكر هذه المسألة عندما كان يراجع لنا اعمال موراكامي . على كل حال قبل ان استرسل في هذه النقطة يجب ان اشير الى ان اعمال موراكامي واقعا تناسب القراءة الاسترخائية فالبيئة التي يرسمها و الاشخاص الذين تدور حولهم الاحداث كل ذلك يساعد على الاستغراق في عالم خيالي عجيب . قدرة الكاتب على الوصف و اللغة السهلة التي يستخدمها شيئان لا يمكن انكارهما اضف الى ذلك انه يطعم النص بحس فكاهي حتى في الاجواء السوداوية من الرواية . و لا يخفى ان من لديه المام مجمل بالثقافة اليابانية و لو الكرتونية منها -"الانمي" و "المانجا"- سيتمكن من تخيل صور اكثر وضوحا في التفاصيل و اقرب للتعاطف مع ابطال القصص. المشكلة تبدأ في التكرار الكثير فالذي يأتي ليقرا اعمال موراكامي بشكل متواصل سيدرك سريعا ان موراكامي يكرر الابطال و الاحداث كثيرا بصيغ متقاربة في اكثر قصصه لدرجة ان تلك الاحداث تصبح مملة و رتيبة تدريجيا . طبعا انا اتفهم مسالة التوقيع الفني فكل كاتب يمتلك توقيعا فنيا يكرره في كل اعماله و لكن انا هنا لا اعني تلك التواقيع الفنية من مثل القطط و الاحلام و النبوءات و الاشارات الموسيقية التي يرمي بها الكاتب في كل عمل من اعماله و انما اعني نفس الابطال و الاحداث تتكرر فشخصية البطل المنزوي و جدلية الذكر و الانثى و الخيانة الغرامية و البحث عن الذات و الاحساس بالضياع و العبثية و ما الى ذلك كلها تتكرر بشكل شبه نصي في اكثر اعمال الرجل .
أعود لمسألة الجنس فمع الاسف هذا الثيم يتكرر ايضا في جل اعمال موراكامي بل انه يتعدى الحدود المعقولة فيتجاوز الوصف المباشر الى عالم الانحدار في الخيانة الزوجية ، الاستمناء ، زنا المحارم ، الشذوذ ، الجنس مع القصر ، الاغتصاب و ما شاكل من الامراض النفسية . لهذا كنت مترددا كثيرا في كتابة هذه المقالة لكي لا اقع في محذور الترويج الغير مقصود بدلا من التحذير و لكن بعد التفكير رأيت ان اعمال موراكامي توصف لكل عشاق القراءة على انها اعمال ادبية مهمة و عالمية و قد وقعت انا شخصيا ضحية لمثل هذا التصور فقلت انه ربما التحذير و الانكار هنا افضل من مجرد السكوت . عليه انا هنا اخلي ساحتي من المسؤولية و ارجو من القارئ الكريم ان يتجنب قراءة و شراء اعمال هذا الكاتب فقد اسرف في السرد الجنسي التجاري الرخيص .
المشكلة في الروايات بشكل عام هي نفس المشكلة التي نعاني منها في الافلام فهي اسلوب لتمييع المعصية فأنا اذكر جيدا انه في فترة المراهقة كان البعض بعد مشاهدة بعض الافلام التي تحتوي على مشاهد مخلة يقول عبارة تبريرية مشهورة " على الاقل فيه قصة " ! و لكن الافلام لانها مصورة فلا يمكن غش النفس كثيرا و التظاهر بأن ما يعرض لا يعد فجورا و يمكن مشاهدته . بعبارة اخرى ان الانسان المتدين من الصعب ان تقول له شاهد فيلما خليعا بشكل مباشر و لكن ماذا لو جاء المشهد المخل باسلوب اخر مثلا على طريقة الكاميرا الخفية ؟ هنا قد يقع الانسان المتدين في محذور شرعي و هو غير منتبه فعليا لان زاوية الرؤية اختلفت فأنا عندما اشاهد فيلما خليعا فكل حواسي و مشاعري متوجهة الى انني ارتكب معصية فالارتداع عامة قريب و ان تأخر لدقائق معدودة لان الانسان المتدين لا يمكنه ان يقيم طويلا على المعصية الصريحة . لكن لنفترض ان بعض النساء العراة ظهرن لفترة في فيلم وثائقي او رياضة عالمية او كاميرا خفية او غير ذلك فقد لا ينتبه الانسان اساسا انه ينظر الى محرم و لو انتبه قد يبرر لنفسه بالاسترسال لانه لم يكن في حالة نظر بشهوة و انما في نظر عابر ساذج و لكن الحال ان الصورة ستنطبع في الذاكرة و ستذهب سريعا الى اللاوعي حيث ستظهر الى السطح في اقرب فرصة ممكنة . هذا ما اعنيه بتمييع المعاصي حيث تكون الحدود ضبابية فالمكر في الروايات و الاعمال المكتوبة ادق لدرجة ان الانسان و ان كان متشرعا قد يقرا المقالات الجنسية و النكات الخالعة و لا يحس بضررها من حيث انه غير متوجه لارتكاب المحذور اساسا او بسبب التبرير كما قلنا. الان قد يدعى انه يمكن مشاهدة النساء السافرات و غيره من المناظر بدون شهوة . اقول انه نظريا يمكن افتراض مثل هذا الشيء فالانسان قد ينظر الى الشيء المثير فلا يحركه لاسباب مختلفة منها مثلا كون الانسان قد افرغ شهوته قريبا او انه في حالة نفسية كئيبة او متعبة فلا يثار برؤية مشاهد التعري او قد يكون مريضا ببعض الامراض التي لها تأثير مباشر على الشهوة الجنسية . هذا من جهة و من جهة اخرى ان الاشخاص يتفاوتون فيما يثيرهم فمثلا يدعي اهل الشذوذ انهم لا يثارون عند رؤية الجنس المخالف و العكس عند الاشخاص المستقيمين حيث يفترض انهم لا يثارون فيما يتعلق بالجنس المشابه لهم فالنتيجة ان الانسان قد يثار من اشياء معينة و قد لا يثار من اشياء معينة اخرى و هذا يعتمد على خلفية و مزاج الشخص . الان اذا صح الافتراض هذا فالمشكلة لا تزال قائمة فالصورة التي لا تثيرك الان تنطبع و تذهب الى اللاوعي و قد تظهر في فترة اخرى تكون فيها اكثر قابلية للاثارة . هذا من جهة و من جهة اخرى ان طريقة الربط الذهني عند الانسان معقدة لنأخذ مثال الشذوذ مثلا فهذا الانسان المستقيم قد لا يثار مباشرة من هذا المنظر الشاذ و لكن هذا المنظر مربوط بالعملية الجنسية و العملية الجنسية بدورها مربوطة في تصور الانسان المستقيم بشكلها المزدوج - اعني الرجل و المراة - و الرابط المشترك بينها اللذة فيثار الانسان المستقيم من خياله السابق . بعبارة اخرى ان الصور حتى لو كانت في نفسها غير مثيرة فهي مترابطة مع الصور الاكثر اثارة في الذاكرة فهي بذلك تحفز الجسم للاثارة ان لم يكن دفعيا فتدريجيا. اضف الى ذلك انه لا يمكن تجاهل قدرة العقل على تكميل الصور و هذا شيء مثبت في محله و مثاله ان يرى الانسان مثلا امراة معينة و في وقتها لا يكون ملتفتا اليها بشهوة معينة و لكن بعد فترة عندما يتذكر هذه المراة تكون الملامح ضبابية فهنا يتدخل العقل و يقوم بعملية الترميم على حد تعبيرهم فيملأ الفراغات و يتمم النقص بناء على الخيالات و الشهوات السابقة المحفوظة سابقا فيخرج بصورة مثيرة و محركة قد لم تكن كذلك وقت الرؤية الاولى . و هذه المشكلة قد تظهر لقارئ النص المكتوب لان الذي يشاهد الافلام لا يحتاج عقله للتخيل فالمخرج قام بكل شيء و ما بقي للمشاهد الا ان يستمتع و لكن الذي يقرأ يحتاج ان يبني صورا من الكلمات فقدرة القارئ على التخيل ستعتمد على شيئين الاول الصور المحفوظة سابقا و الثاني ما ذكرناه من قدرة العقل على الترميم و الابتكار.
الحاصل ما اريد قوله ان الانسان و لو استطاع ان يقرا بدون شهوة على فرض ان لديه قدرة متقدمة في تحييد التصور و السيطرة على جماح الافكار فهو على شفا جرف خطير ادرك ذلك ام لم يدرك و من حام حول الحمى اوشك ان يقع فيه . نهاية اقول ما نعيشه من سباق على تملك انتباه الانسان من قبل شركات الاعلانات يشابه ما نحن في صدده فاذا ادركنا ان الانتباه - سمه ما تشاء انما اريد ذلك الجزء الذي يدرك و يعي الاشياء عند الانسان و هو غير العقل الذي يقوم بالتحليل و التخزين و ما الى ذلك - انما هو قائم بالشيء المُدرَك فمن السهل تصور اهمية اختيار المُدرَك فبالمدرك قد نرتقي الى العالم العلوي و قد ننزل الى وساخات العالم الدوني . المشكلة ان هذا الانتباه بطبيعته جامح لا يحب الصورة الثابتة و لا الاستقرار فالسيطرة عليه شيء اشبه بالمستحيل و انما ينطلق لاقرب مشتت خارجي او داخلي كالبهيمة المسرعة نحو الجزرة . لهذا الحذر الحذر ! لا نجعل انتباهنا فريسة سهلة لكل من هب و دب يرسلها حيث يشاء فننتبه اننا بعد نصف ساعة من القراءة انما كنا نخوض في وحل من القذارة .

هذا مبلغ علمي و استغفر الله ربي و اتوب اليه ان كنت اردت ان احسن فاخطأت .

*** هذه المقالة الاخيرة قبل الانقطاع لفترة الاجازة السنوية و التي ستمتد الى قرابة نهاية شهر صفر.

دمتم في الرضا ،